البدلات والمكافآت تغير نظرة رجل الشارع .. إهانة المحامين تمنعهم من التضامن.. والصحفيون يستحضرون "الحبس و الاقتحام" و"التظاهر" و"تيران وصنافير" أغضبت السياسيين منهم.. والحقوقيون يرونه شريكًا للنظام لم تكن العلاقة بين القضاة والسلطة، على مر العصور بالوردية دائمًا، فقد مرت خلال المراحل الماضية بعدة منحنيات، بداية من الرئيس الأسبق عبد الناصر مرورًا بأنور السادات وحسنى مبارك ومحمد مرسى، نهاية بالرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى، والذى وصلت خلاله ذروة الصراع بعد نجاح إصدار قانون الهيئات القضائية وسط غضب عدد كبير من القضاة وموافقة عدد آخر للقرار. وخلال مواجهات القضاة مع السلطة عبر هذه الفترات، اعتمد القضاة على ظهير شعبى كبير يسانده وأعضاء من البرلمان يقفون خلفه مع عدد كبير من النشطاء والسياسيين كانوا فى صفه دومًا، بالإضافة إلى إعلام قوى يسعى لنشر قضيته، لكن فى الأزمة الأخيرة والمتمثلة فى إصدار قانون الهيئات القضائية، وجد القضاة أنفسهم ولأول مرة بدون أى ظهير شعبي، أو دعم برلمانى وإعلامى، بل إن الأمر وصل مع البعض إلى التعبير عن حالة من "الشماتة"، نرصد فى هذا التحقيق أسبابها وما إذا كان هناك نية لتجاوزها والعودة للوقوف مرة أخرى مع القضاة كتفًا بكتف كما كان المشهد فى وقفتهم الشهيرة التى خلدها التاريخ فى عام 2005.. أين ذهبت قوة القضاء؟ اختلف شكل الصراع بين السلطة والقضاء فى عهد الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى، ففى حين مرر البرلمان القانون الذى حذر فقهاء قانونيون وشيوخ القضاة منه، وأصيب الكثيرون بالخيبة والإحباط بعدما علقوا آمالاً وردية على ما أسموه ب"حكمة الرئيس" ورفضه التصديق عليه، لم يبد أن هناك أى اعتراض مؤثر على مجرى الأمور وأن كل محاولات الرفض والمعارضة محكوم عليها مسبقًا بالفشل، حتى أن دعوات بعض العقلاء إلى التخلى عن روح الغضب من القضاة وتجاهل الصورة الذهنية المشكلة لدى غالبية فئات الشعب ضدهم للتصدى إلى تغول السلطة التنفيذية وتقزيمها لكل ما دونها من سلطات.. باءت أيضا بالفشل . الواقع أن القضاة، فقدوا خلال معركتهم الحالية أمام السلطة الحاكمة نقاط قوتهم الرئيسية، المتمثلة فى الظهير الشعبى المكون من أصحاب الوعى العام الذين يحملون للقضاة مشاعر إجلال واحترام وثقة، إضافة إلى القوى الثورية المعارضة، نواب الشعب، نقابتا المحامين والصحفيين، المجتمع المدنى، إلى جانب الانقسامات الحادة التى تدور بين القضاة فيما بينهم بشأن تأييد النظام ودعمه المطلق . الشعب يفقد الثقة يقول المستشار أحمد سليمان وزير العدل الأسبق، إنه فى عامى 2005، 2006، وقف القضاة ضد النظام اعتراضًا على تزوير الانتخابات، وتعرضوا لإجراءات انتقامية من النظام كانت بدايتها إحالة المستشارين محمود مكى وهشام بسطويسى للصلاحية فأدرك الشعب أن القضاة يدافعون عن إرادة الأمة وأنهم يتعرضون لإجراءات انتقامية لهذا السبب فوقف الشعب مع القضاة وقفة شجاعة صامدة تعرضوا خلالها للضرب والاعتقال ولم يثنهم ذلك عن مساندة القضاة". وأضاف سليمان:"أما اليوم فقد رأى الشعب القضاة يقفون ضد ثورتهم، والحبس دون سؤال المتهمين خلافًا للقانون، وصادرت المحاكم ضمانات الدفاع للمتهمين وصدرت الأحكام بالإعدام دون سماع الدفاع، وصدرت استنادًا لمحاضر التحريات خلافًا للقانون ولعلمهم اليقينى بعدم جواز ذلك، وأصدر القضاء المستعجل أحكامًا استجاب فيها للطلبات رغم أنه غير مختص بنظر هذه الدعاوى، فبدت أحكامه محل انتقاد فى الداخل والخارج .. كل ذلك أفقد القضاء ثقة الشعب فيه، ومن ثم فقد الظهير الشعبى الذى كان يسانده، بل بات يتشفى فيه مما أصابه، حتى أن بعضهم نشر على فيسبوك صورة دار القضاء العالى وكتبوا عليها دار القضاء على مصر مما يعكس ما آلت إليه نظرة الشعب المصرى للقضاء. المحامون يشاهدون فى صمت من جانبه قال الحقوقى عمرو عبد السلام نائب رئيس منظمة الحق لحقوق الإنسان، إنه لا ينكر أحدًا أن تعديل قانون الهيئات القضائية الذى أقره البرلمان مؤخرًا وصادق عليه رئيس الجمهورية يمثل خطرًا يهدد مبدأ العدالة ذاته واستقلال القضاء وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وجعل أمرها بيد رئيس الدولة، وأن هذا يهدر حق المواطن فى المحاكمة العادلة. وأضاف عبد السلام: " ونحن كمحامين ومدافعين عن الحقوق أعلنا موقفنا تجاه تلك الأزمة ورفضنا التام لأى مساس باستقلال القضاء لأننا نعلم بالآثار التى ستترتب على هذا القانون إلا أن عددًا كبيرًا من المحامين وقف موقف المشاهد والصامت بسبب الأزمات الحادة و المتراكمة بين القضاة والمحامين والتى شهدتها أروقة المحاكم خلال الفترة السابقة والتى انتهت بحبس عدد لأ باس به من المحامين بحجة إهانة القضاء". وأشار إلى أن موقف القضاة تجاه الأزمة انتهى سريعًا بالإعلان عن التزامهم بتطبيق القانون ومن ثم فلا توجد معركة حقيقة يمكن أن يستدعى فيها الشعب والمحامين لمساندتهم فيها، فأصحاب الحقوق أنفسهم تخلوا عن موقفهم. الصحفيون يتابعون بحزن من جانبه يقول تامر المصرى، صحفى وإعلامى، إن السبب الرئيس وراء فقدان القضاة الظهير الشعبى هو أن الجميع يعلم أن المعركة داخلية وأن القضاة جزء من النظام، بالإضافة إلى أن القضاة أنفسهم منقسمين بين مؤيد ومعارض . وأضاف المصرى، أن سر صدام الصحفيين مع القضاة عدة أسباب منها، الحكم على عدد كبير من الصحفيين، بالإضافة إلى محاكمة كل من نقيب الصحفيين السابق واثنين من مجلس إدراته والحكم بسجنهم كل هذا أدى إلى عدم تعاطف الصحفيين مع القضاة فى أزمتهم الحالية. وأشار المصرى، إلى أنه فى ذات الوقت يرى الشارع المصرى أن القضاة هم طرف قوى ليس بحاجة للوقوف بجواره. ويقول أحمد أبو زيد عضو المرصد العربى لحرية الإعلام والتعبير، إن أبرز أسباب عدم وجود تضامن شعبى مع القضاة هو انقسامهم على أنفسهم وعدم وجود أى تيار حقيقى يدافع عن استقلال القضاء فى ظل إقصاء كل قضاة الاستقلال من مناصبهم؛ فى الوقت الذى تآمر كل من نادى القضاة ومجلسهم الأعلى على هذا التيار ، بينما جاء موقفه أكثر انبطاحًا بإرساله أسماء القضاة إلى السيسى للتصديق عليهم واختياره رئيسًا جديدًا للسلطة القضائية يكون أحد سكرتارية السيسى فى مرفق القضاء. أما ثانى الأسباب، فإن القضاة تخلو عن حماية الحراك الديمقراطى وتواطئوا ضده وقاموا بتنفيذ مطالب السلطة التنفيذية بمنح معارضيها أحكامًا قاسية تتجاوز القانون فى محاكمات لا معقولة، فضلاً عن حالة الخصومة بين القضاة وأكبر تيار حيوى فى المجتمع وهو التيار الإسلامى الذى كان وقود حراك استقلال القضاة فى 2006 ، حيث اعتقل منهم 7000 كادر دفاعًا عن استقلال القضاء، لكن القضاة لم يحفظوا هذا الدور وأصدرت أحكامًا قاسية بحق عشرات الآلاف من كوادره. أما بالنسبة للصحفيين، فإن القضاة أول من وقف مع السيسى ضد نقابة الصحفيين فى أزمتها مع السلطة، بل إن النائب العام أجاز إلى الداخلية اقتحام نقابة الصحفيين، بالإضافة إلى الأحكام المشددة ضد رموز تيار الاستقلال يحيى قلاش ورفاقه، فضلاً عن تورط النيابة العامة بالسكوت على عشرات الانتهاكات ضد الصحفيين و ضلوع دوائر الإرهاب فى محاكمة عشرات الصحفيين محاكمات فاقدة لمعايير العدالة، مما خلق حالة من الفتور الواسعة ضد القضاة، على اعتبار أن المعركة الحالية بين أركان نظام قمعى وليس للصحفيين ولا الشعب ناقة فيها أو جمل. السياسيون يفقدون تعاطفهم وفى نفس السياق، يقول الدكتور خالد متولى عضو حزب الدستور، إن الأسباب الحقيقة التى جعلت هناك عدم تعاطف مع القضاة فى أزمتهم الحالية، هى الأحكام التى أصدرها القضاة وخاصة فى أحكام الإعدامات على عدد كبير من جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى إصدار قانون التظاهر وقضية تيران وصنافير، وكل هذه القضايا كانت ضد إرادة الشعب فجعلت من القانون الأخير، والذى أصدره السيسى مصدر شماتة من الشارع أو على الأدق لا مبالاة. وأضاف متولى: أن الأحكام أيضًا التى صدرت ضد عدد كبير من النشطاء والسياسيين صنعت فجوة بين القضاة والسياسيين، بالإضافة إلى كمية التعالى من القضاة نحو الشارع، فكل هذه الأمور أفقدت الشارع تعاطفه مع القضاة. وأشار عضو حزب الدستور، إلى أن أعضاء البرلمان الحالى كلهم يميلون ناحية النظام فلا نجد أحدًا منهم سيختلف مع النظام ويقف مع القضاة فى أزمتهم الحالية. الحقوقيون يرونه "شريكًا" للنظام من جانبه يقول عزت غنيم مدير منظمة التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، بالنسبة لأزمة القضاة الأخيرة تختلف تاريخيًا عن أزمتى 2005 و2006فأزمة القضاة فى 2005 كانت نابعة من نظام ديكتاتورى وقف ضد الشعب المصرى كله بكل طوائفه، ومنهم القضاة والصحفيون والمحامون فكان تحالف الشعب خلف القضاة, هو مساندة لفئة مظلومة ضد سلطة غاشمة, لم يرد فى ذهن أى مواطن السؤال حول لماذا نساندهم؟". وأضاف غنيم : " ولكن هذا السؤال يتبادر لذهن الكافة الآن فالقضاة حتى الآن وبعد الأزمة يعتبرون أنفسهم الظهير الحامى للنظام وليسوا جزءًا من الشعب". وأشار مدير التنسيقة المصرية للحقوق والحريات: "النظام فى لعبته مع القضاة استطاع خلال ال 3 سنوات الماضية أن يصنع عداوة بين الشعب والقضاة بشكل خاص وذلك عن طريق 3 أمور كسرت رؤية القضاة أنهم مظلومون وهى الإعلان المكثف فى كل جرائد السلطة عن منح ومكافآت وعلاوات للقضاة، قد يكون أغلبها غير صحيح ولكن إعلام السلطة هو من أعلنها، بالإضافة إلى أن المجلس الأعلى للقضاء لم ينكر هذه الأمور". والسبب الثانى، هو التعيينات فى الجهات القضائية كانت بشكل واضح لذوى الحظوة من أبناء القضاة وكبار رجال الدولة، واستبعاد أوائل الطلاب والمتميزين زاد من السخط الشعبى على القضاة، وأخيرًا الأحكام القضائية المثيرة للبلبلة، والتى صدرت من جهات القضاء العادى مثل موافقة القضاء المستعجل على بيع تيران وصنافير ، وأيضًا أحكام الإعدام بالجملة والتى صدرت من محاكم الجنايات ومنع النشطاء والحقوقيين من السفر للخارج،كل هذه الأسباب مجتمعة صنعت نوعًا من السخط الشعبى على القضاة، وأظن أن النظام كان يقصد من وراء هذه الأمور الثلاثة متعمدًا زيادة السخط الشعبى، وتوسيع الفجوة بين القضاة والشعب.