حين كنتُ صغيرة.. كنتُ أنتظر أن أكون الكون فى عيون رجل أختصر عالمه بجنون.. وحين وعيت.. علمتُ أن الروعة تكمن فى أن نعقل فى الحب.. ليكون الكون طريقاً ممهّداً للجنّة! وأنّ المبالغة فى إثارة موضوع العشق بين الزوجين هو من قبيل الرومانسية الحالِمة.. بتّ أؤمن أن الاحترام والمودة والرحمة هم الأساس.. وما سيدوم -إن أتقنَ الزوجان معانى المفردات!- بعض من واقعية وموضوعية نحتاج على الطريق.. لنستمر.. ونستقر! حين كنتُ صغيرة.. كنتُ أنظرُ لرجال الدّين أنّهم مؤتمنون عليه.. انتُدِبوا ليؤمّوا الصلوات ويتكلموا فى الشرائع فيرشدون ويوجِّهون.. ويُعظِّمون شعائر الإسلام ويكبِّرون الحق فى صدور المسلمين.. وأنه لا يمكن أن يتكلم بالدّين إلا من درس وتعمّق وطبّق.. وأن كل صاحب "طربوش أحمر" ملفوف بقماشة بيضاء هو رمز للنصاعة والخضوع الكامل لله جل فى علاه.. ولا يرضى أن يكون تابعاً لجهة سياسية أو مرجعية حزبية.. وإنما هو "حر" قلبه طليق فى فضاء الله محاط برعايته! وحين وعيت.. علمتُ أن فكرة استحداث طبقة رجال الدّين هى دخيلة على الإسلام! فيُفترَض أن كل مسلم هو داعية إلى الله عز وجل.. فى سكناته وحركاته وهمومه.. وعلمتُ أن الأمّة ما تدهور حالها إلى هذا الدرك إلا حين استبدل بعض العلماء الذى هو أدنى بالذى هو خير.. فباعوا دينهم بترقيع دنياهم.. وفَقَدوا الهيبة والمرجعية.. وطعنوا الشريعة الغرّاء وأفقدوا الثقة بهم وبالدّين.. فتراجع الجمع وتقهقر أهل السنّة! وعلمتُ أنه حين يتلقّى أصحاب العمائم التعليمات والأموال من حزب أو تيار يسعى لمصالحه ويصبحون أُجراء عند مَن لا يُقيمون للدّين وزنًا.. عندئذٍ تضيع العهود وتتحكّم القيود على العقول قبل الأيدى والأرجل.. ويصبح "الحر" أسيراً للهوى.. فيهوى! حين كنتُ صغيرة.. كنتُ أرى فى المحاكم ساحةً للحق.. وللعدل.. وللقِيَم.. وحين وعيتُ.. علمتُ أن القوانين وإن كانت راقية عادلة.. لن تجد طريقاً للتطبيق والإصلاح، طالما أن القيّمين عليها يُسيَّرون بسياط الواسطة والرشوة والغفلة.. وحين يستهين قاضٍ بإعطاء حق لمظلوم أو تأخير خلاصه من نير الجور.. فعلى المحاكم السلام! وإن كانت محاكمَ يسمّونها "شرعية"! حين كنتُ صغيرة.. كنتُ لا أفرِّق بين نظام وشعب.. فحين كانت تُذكَر سوريا كنتُ لا أطيق سماع اسمها.. بعد أن عربد نظامها الحاكم فى بلدى دهرًا.. وخاصة فى منطقتى التى اعتبروها مقاطعة ضمّوها لخريطتهم.. فظلموا العباد.. وتجبروا واغتصبوا الأرض والعرض.. حتى سكنتنى الكراهية والحقد الأسود عليهم.. وحين وعيتُ.. تغيّرت نظرتى وفهمت! لقيتُ رجالاً شُمّ الأنوف بِيض القلوب مؤمنين حقًا.. ونساء عاليات الجبين شامات راقيات مؤمنات صدقًا.. انسلخوا عن سوريا إبّان مجزرة حماة فى أوائل الثمانينيات.. وباتوا "لاجئين" مشتّتين فى البلاد.. يعيشون غربة قاسية تسطّر على جباههم فى كل يوم مرارة الظلم وفى قلوبهم شغف العودة! وعلمتُ حينها أن النظام شىء والشعب شىء آخر.. وأن ما عانيناه فى لبناننا هو امتداد للقهر الذى يعانيه الشعب السورى.. فاقتلعتُ من نفسى جذور الكراهية ونثرتُ بذور الحب والتودّد.. فنحن فى الهمّ سواء.. ونتطلّع جميعنا للخلاص! حين كنتُ صغيرة.. كنت أقرأ عن الثورات وأُفتَن بإنجازاتها وبأثمان الحرية التى دُفِعَت.. ابتداء من الثورة الفرنسية التى اندلعت ضد الظلم والفساد والجوع ثم كشفت الأيام أن الماسونية تدثّرت بشعارها "الحرية والإخاء والمساواة".. مروراً بالثورة الجزائرية التى قامت ضد المحتل الأجنبى وراح ضحيتها مليون ونصف مليون شهيد.. ووصولاً إلى ثورة الحجر فى أرض الرباط المباركة التى أرهبت المحتل وهزّت كيانه! ثم كنتُ أرى الذل والهوان يسكنان النفوس فى بلاد العرب التى يحكمها طغاة يستأثرون بالحرث والخيرات ويتأمّرون ويتآمرون.. فيصيبنى غمّ وتسكننى أعاصير تنتشل كل معانٍ للراحة.. فمتى يزهر الوعى فى بلاد العرب "حرية"؟! وحين وعَت الشعوب.. اهتزت ورَبَت وأنبتت حرية! فى بلاد تحطّمت فيها القيود وأُخرى تنتظر! اندلعت الثورات فى تونس الخضراء لتتبعها ليبيا ومصر واليمن.. ولكن بقى مجرد التفكير فى أمر اندلاعها فى سوريا ضرباً من الخيال.. ليس لفقدان الشام رجالها.. وإنما لأن اندلاع الثورة ضد أعتى نظام وحشى يعنى القتل والسحل والتنكيل والتهجير! والاغتصاب! وقد كان! تنفست سورية نسائم الحرية فثارت أرض الياسمين.. وتحوّل الدم زيتاً يُسرِج فتيل الثورة.. ومهما طال الأمد فللباطل نهاية حتمية وإن تعاظمت التضحيات.. والحرية تستحق لأنها منحة الله ونعمته العظمى للإنسان! حين كنتُ صغيرة.. كانت أدوات النضال بنظرى رصاصةٌ تخترق قلب المعتدى.. أو حزام ينسف الظالم ويُحيله أشلاء مبعثرة.. وحين وعيتُ.. علمتُ أن أدوات النضال كثيرة كثيرة! تبدأ بما يتوفّر بأيدى المجاهدين ليواجهوا بها الظلم ويتحدّوا المحتل! وفى المعتقل، حيث لا يملك الأسير إلا جسده ليقاوم.. تبدأ معركة الأمعاء الخاوية.. ويكون الجهاد إضراباً عن الطعام.. رسالة يوجهها المعتقل للسجّان: لن تذلّنى وأنا سأبقى الأقوى.. ورسالة يوجهها للعالَم المشغول بترّهات: نحن هنا.. هلاّ التفتّم لقضيتنا ونصرتمونا؟! فقد فاض كأس الظلم والاستبداد!! وما زلت أكبَر.. وأَعى.. وأتعلّم.. وأتلمّس الخطى.. فى دروب الحياة..