"عشنا سنوات داخل جداران المعتقل كالأموات.. فالسجون كانت مقابر يتم تعذيبنا فيها" بتلك الكلمات الحزينة بدأ حسين رفعت، المعتقل السابق، ليحكى لى قصته مع الاعتقال داخل سجون العادلى، لأشعر معه للمرة الأولى بقسوة ما يحدث داخل جدران المعتقلات. ورغم هدوئه إلا أننى كنت أشعر بارتجاف صوته كأنه قادم من غرفة التعذيب.. فآثار الاعتقال مازالت على وجهه الحزين، كأنها ترسم خارطة للمعتقلات الثلاثة التى قضى بها 11 عامًا ما بين العقرب إلى الوادى مرورًا بالفيوم. فجأة تغيرت نبرة صوته كأنه شعر بحزنى عليه، قائلاً بقوة: "أنا لم أندم لانضمامى للجناح العسكرى للجماعة الإسلامية، فكنت أعلم جيدًا أنه سيتم اعتقالى، وكان هدفى أن أجد دورًا فى إسقاط النظام.. فهل أنتظر بعد ذلك الحصول على جائزة نوبل". تراجع ضاحكًا بسخريته اللاذعة، ليقول: "أى فرد فى الجماعة الإسلامية كان يعلم جيدًا أنه سيتم اعتقاله، حتى إننى أتذكر موقفًا طريفًا حدث فى بداية انضمامى للجماعة، عندما طالبت من أحد القادة فى الجماعة بأن يعلمنى أحكام تلاوة، قال لى: "خد بالك الموضوع يبدأ بأحكام تلاوة، وينتهى بأحكام عسكرية". سألته وأنا أخشى من إجابته: "لماذا إذن عرضت نفسك لمرار الاعتقال وأنت شاب متعلم وخريج كلية العلوم"، جاءت إجابته التى كنت أخشاها، ضحكة ساخرة، قائلاً: "يا سيدتى، مصر لم يكن فيها مكان للمصريين.. حتى اضطررت للهروب إلى الخارج، بحثا عن احترام حقيقى للإنسان.. فوجدت فى الغرب ذلك الاحترام، فقد كانوا يعاملوننا كمواطنين من الدرجة الثانية". فرددت عليه: "أفهم من ذلك.. أن ما حدث لك فى أوروبا كان سببًا فى انضمامك لصفوف الجماعة الإسلامية"، فأجابنى بهدوء شديد، قائلاً: "نعم، لأنه كان لدى قناعة أن نظام مبارك يجب ألا يستمر، فقد كانت التنظيم الوحيد فى مصر القادر على تخليصها من نظام مبارك". وأوضح حسين رفعت أنه استطاع الانضمام لصفوف الجماعة بمساعدة إخوته البنات، فزوج أخته المهندس محمد جمال إسماعيل، كان أمير الجماعة، وكانوا يثقون به، بحكم علاقة النسب، فعرف أن هناك تنظيمًا فى الجامعة الإسلامية بالمنيا، موضحًا أنه طلب أن يقابل أحدهم لمعرفة ما يحدث داخل الجماعة الإسلامية، وبالفعل تعرف على شخص يلقبونه بقائد الجناح العسكرى للجماعة الإسلامية يقوم بتنظيم عمليات استشهادية. فتعجبت من إجابته، وسألته: "كيف تقول على هذه العمليات استشهادية؟ أليس هذا قتلاً للمدنيين ويحرمه الإسلام؟"، فأجابنى بهدوء شديد: "كان للجماعة فى هذا الوقت منظور شرعى لتلك المسألة.. فكنا نعتقد أنه حلال.. فما الذى يجبرنى أن أقوم بعمل قد يتم إعدامى عليه". وعن قصة اعتقاله، قال رفعت: "جاءت حملة من القاهرة لاعتقالى بسبب اثنين من العائدين من أفغانستان، نزلوا عندى فى المنيا، واستقبلتهم لأن مهمتهم كانت تقضى تدريب شباب من الجناح العسكرى على استخدام السلاح وحرب العصابات وكيفية تنفيذ العمليات، وتم القبض عليهم فاعترفوا تحت تأثير التعذيب.. وبعدها فوجئت بهم على باب منزلى وبعد تفتيش المنزل عثروا على ورقة فى المحفظة مكتوب فيها، "طلبات إعاشة لمجموعة عسكرية وسط الزراعات"، وعندما سألونى عن الورقة مزقتها سريعًا، وأنا أقول: "ولا حاجة يا باشا دى شوية ديون". وأشار إلى أنه بمجرد أن مزق الورقة ثار غضبهم وقاموا بضربه وركله وحمله أربعة رجال ووضعوه فى إحدى السيارات السوداء تحركت بأقصى سرعة ورموه فى أسانسير مغشيًا عليه، وفجأة استيقظ على صعق كهربائى، مبينًا أن الألم كان شديدًا، خاصة أن التعذيب استمر طوال 45 يومًا بشكل شبه يومى من السادسة مساء حتى السادسة صباحًا، تبدأ بالكهرباء فى اليدين والقدمين، ثم يبدأون فى تصعيد التعذيب إلى أن يصل إلى أكثر الأماكن حساسية فى الجسم، مضيفًا أنه تعرض لكمية كهرباء يمكن أن تكفى المنيا كلها إنارة لمدة عشر سنوات. ابتسمت له ابتسامة حزينة، وسألته: "هل رأيت من قام بتعذيبك"، فشرد ببصره، وهو يستعيد تلك الذكريات، قائلاً، وهو يتنهد بصوت مسموع: "نعم رأيت البعض منهم، عندما حدث لى تشنج فى أحد الأيام من تأثير التعذيب، فاصطدمت رأسى بالأرض لتزيح عن عينى الغمامة التى وضعوها على عينى.. وللأسف، شاهدت من يعذبنى، وكان أحدهم من أعز أصدقاء الدراسة عندما كنا صغارًا". قاطعته قائلة: "وماذا بعد 45 يومًا"، أجاب بابتسامة باهتة: تم عرضى على النيابة بتهمة قلب نظام الحكم والانتماء لتنظيم غير مشروع، وبرغم أن النيابة أخلت سبيلى، تم اعتقالى فى نفس اليوم الذى لا استطيع أن أنسى تاريخه 17 أكتوبر 1994. قاطع حديثنا فجأة، دخول صبى صغير يحمل صينية بها كوبان من الشاى الحبر الصعيدى، فقدم إلى رفعت الشاى، قائلاً: "أول يوم قضيته داخل معتقل العقرب، كان هناك ما يسمى بحفل الاستقبال، واستقبلونا بتفتيش ذاتى وضرب وحشى بالكبلات وتخويف بالكلاب، وبعد ذلك أخذونا إلى الزنزانة وهم يجرونا على الأرض لأننا لم نستطع الوقوف من كثرة الضرب الذى استمر لساعتين، من الساعة الثانية ظهرًا حتى الرابعة والنصف عصرًا"، موضحًا أن حفلات التعذيب كانت داخل معتقل العقرب بشكل أسبوعى. الغريب أن رفعت بدأ فى حفظ القرآن الكريم، خاصة أن المصحف الشريف كان الزميل الوحيد له داخل الزنزانة، فانتهى من حفظه فى 60 يومًا، مبينًا أن أسوأ ما حدث له داخل المعتقل، إصابته بالسل فى معتقل الفيوم، لأنهم كانوا يتبعون سياسة التجويع، فكانوا يقدمون كميات قليلة جدًا من الطعام وناقصة الملح، مما أصابهم بهشاشة العظام والتعب، مشيرًا إلى أن عدد المعتقلين فى معتقل الفيوم كان كبيرًا جدًا، وكانت الزنزانة 30 مترًا فقط، وفيها 40 معتقلاً، معدومة التهوية، وظل بها خمس سنوات كاملة لم ير فيها النور، حتى إن السل انتشر فى المعتقل كله. قاطعته قبل أن يكمل رحلته، وسألته عن أجمل ذكرياته، "فضحك" قائلاً: "إذاعة صوت الخلافة الإسلامية"، وعندما شعر باندهاشى، قال: "عملنا إذاعة تبدأ الساعة الثامنة مساء، وكنا نقوم بتوزيع الأدوار عن طريق فتحات بين الزنازين، كنا مهربين قلم رصاص صغير، وشوية ورق صغير وكل منا يذيع من خلال شباك زنزانته". سألته وما الذى كنت تفكر فيه داخل المعتقل، أجاب: "كنت أريد أن أخرج من المعتقل سليم العقل والدين.. إحساس فظيع عندما تشاهد شخصًا يفقد عقلة أمامك"، ففى الفترة التى قضيتها بالفيوم كان هناك فى كل زنزانة على الأقل حالة فقدت عقلها"، مضيفاً: "لكن فى معتقل الوادى كان الوضع سىء جدًا من كثرة التعذيب الذى كنا نتعرض له، فكانوا يطلبون من المعتقلين أن يطلقوا على أنفسهم أسماء نساء، ومن يرفض يتم ضربه وتعذيبه كنوع من الانتقام"، مشيرًا إلى أن هناك عددًا كبيرًا توفى داخل السجون من أثر التعذيب والمرض والجوع وصل إلى أكثر من 180 معتقلاً. وقد طالب حسين بضرورة فتح ملف المعتقلين والاهتمام بهم، خاصة أن ضباط أمن الدولة الذين كانوا يعذبونه، مازلوا فى الخدمة حتى الآن وأكثرهم فى جهاز الأمن الوطنى، فالثورة لم تكتمل وحق الشهداء هو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.