نشهد فى هذه الأيام حملة إعلامية ضارية ضد تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، أبرز سماتها أنها تمجّد المنسحبين من اللجنة وكأنهم يقومون بعمل بطولى ضد العدوّ الإسلامى القابع تحت قبة البرلمان.. فى مواجهة هذه الحملة يحاول الإسلاميون الدفاع عن موقفهم.. وقد عرض فصيل منهم التنازل عن بعض حقوقه لعل هذا يرضى الغاضبين.. ولكن تمضى الحملة الهوجاء ولا تتوقف عند حدّ.. وإلى هنا لا جديد تحت الشمس؛ فالهجوم على الإسلاميين وعلى الإسلام نفسه قديم ومتواصل.. ولكن الشعب بعد الثورة أصبح طرفا أصيلا فى هذه المعادلة فقد أدلى برأيه وعبّر عن موقفه بقوة فى واقعتين؛ انتصر فيهما وكشف عن معدنه الكامن.. وأثبت أنه قد أصبح عصيًّا على الاستخفاف والاستهواء: واقعة الاستفتاء على التعديلات الدستورية وواقعة الانتخابات البرلمانية.. لقد أفشل الشعب مخططات قُطّاع الطريق، وأسقط تنبؤات حكمائهم الذين ذهبوا إلى أن أقصى ما يمكن أن يحظى به الإسلاميون لن يزيد عن 15 أو20% من أصوات الناخبين.. فمنحهم الشعب أكثر من سبعين فى المائة من أصواته فى كل الواقعتين.. ومن ثمّ يئس قُطّاع الطريق من الشعب ومن برلمان الشعب. تذكروا ساويرس والأحزاب التى صنعها وجمعها تحت مظلته.. وراح يهدّد بأنهم لن يسمحوا للإسلاميين بالوصول إلى البرلمان، وتآزر معه كل الليبراليين.. ولكن الشعب خذلهم وسخر منهم جميعًا: فقد أعطى لأكثرهم أصفارًا.. أو مقعدًا واحدًا فى مجلس الشعب.. وبعض الأحزاب ذات الصوت العالى مثل حزب التجمع حصل على أربعة مقاعد، تمثل أقل من واحد فى المائة من مجموع نواب المجلس.. وأكثر الأحزاب اليوم ضجيجًا إعلاميًا وأعلاها صوتا ضد تشكيل التأسيسية له فى البرلمان 15 مقعدًا لا غير.. ولأنهم من صنف لا يخجل من اقتراف الأكاذيب راحوا يروّجون: أن الإسلاميين قد احتكروا التأسيسية.. والحقيقة أن الإسلاميين قد ارتضوا لأنفسهم نسبة متواضعة وتركوا للآخرين 60% من عضويتها.. والغريب أنهم يزعمون أن اللجنة لا تمثل كل فئات الشعب..! وهذه مغالطة هى أقرب إلى التهريج السياسى: فلا يمكن عمليا أو منطقيًا أن تمثل لجنة واحدة مهما كان عددها كل فئات الشعب..! وحتى لو استطعنا أن نعرّف ونتّفق على ما هى فئات الشعب ونحصر عددها، ونعطى لكل فئة وزنها النسبى فى المجتمع.. فهل المطلوب من لجنة الدستور أن يُمَثل فيها كل هذه الفئات....؟! أم أن المطلوب من واضعى الدستور أن يجعلوه ممثلا لآمال وطموحات الشعب فى حياة ديمقراطية حرة كريمة.. يتحقق فيها العدل والمساواة والحقوق الإنسانية، وتضمن التعددية الحزبية وحرية الرأى والتعبير.. والفصل بين السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء.. إلى آخر هذه القائمة المعروفة فى كل دساتير العالم؟! المفكرون العقلاء يفهمون أن هذه هى القضية الأساسية والمحورية، وهم يعلمون أن كل شىء سيرجع فى النهاية إلى الشعب ليقبل مشروع الدستور أو يرفضه، ومن ثَمَّ فلا معنى لافتعال معركة ضد تشكيل لجنة تعتبر -دستوريا- من صميم واجبات البرلمان المنتخب.. فلا معنى لإثارة كل هذا الضجيج الإعلامى.. وشغْل الناس بهراء لا طائل من ورائه.. ولا يعبّر إلا عن يأس أصحابه، ولا يكشف إلا عن خواء فى منطقهم.. ويؤكد لكل عاقل أنهم ليسوا - فى الحقيقة- ضد تشكيل اللجنة ولكنهم ضد العملية الديمقراطية من أساسها.. اسمع أو اقرأ ما يقوله أحمد سعيد رئيس حزب ساويرس من هلاوس.. أو زيف ما يقوله رفعت السعيد:" نحن لا نخون الوطن، ولن أكون شاهد زور ضد الوطن...!"وهل فعل رفعت غير هذا طوال حكم مبارك الذى شمله برعايته ومنحه مقعدًا فى مجلس الشورى بدون انتخابات.. وأتاح له منابر إعلام الدولة يرتع فيها.. لأنه كان أكبر مِعْوّلٍ فى هدم كل محاولة لتحالفٍ أو تقاربٍ بين قوى المعارضة الوطنية..؟! وقصته قبل ذلك فى الحزب الشيوعى: ألم تكن شهادة زور وخيانة متّصلة لهوية هذا الوطن وعقيدته..؟! استمع أيضًا إلى عبد الحليم قنديل يصف تشكيل اللجنة التأسيسية بأنه باطل.. بل يصرّح بأن البرلمان نفسه باطل.. ويزعم أن عليه الكثير من علامات الاستفهام...! ثم أسأله: أى علامات استفهام ياسيد قنديل..؟ هل تم تزوير الانتخابات مثلا..؟! إذن قل لنا من قام بهذا التزوير وكيف قام به إن كان لديك علم خاص لا نعلمه...؟ ثم يتمادى فى مزاعمه فيقول: أن مايحدث الآن هو تحالف لجماعة الإخوان المسلمين مع المجلس العسكرى.. ثم يصفها بأنها "جماعة مبارك" هكذا بلا دليل ولا منطق.. فهل يوجد أكثر من هذا استخفافًا بعقول الناس..؟! أسألُ السيد قنديل: هل بلغتك تهديدات المجلس العسكرى للإخوان المسلمين فى بيان منشور على الملأ..؟! أهذا هو التحالف الذى تزعمه...؟! وبأى معنى ياسيد قنديل كان الإخوان هم جماعة مبارك..؟! هل نسيت ما فعله بك مبارك إذ اختطفك زبانيته وضربوك ضرب الكلاب، ثم ألقوا بك عاريا فى الصحراء.. لقد تعاطفت معك يومها وكتبت إليك بذلك.. ومع ذلك كانت هذه مجرد قرصة أذن، أو شكة إبرة بالنسبة لما فعله مبارك بهذه الجماعة الوطنية المناضلة، على مدى ثلاثين عامًا من حكمه المشئوم، مما لا يخفى عليك.. ولكنك الآن تنكره وتتجاهله.. أنصحك بدلا من المكابرة والتمادى فى غمط الحقيقة أن تقرأ كتابا موثّقا عنوانه "الإخوان المسلمون فى معتقلات وسجون مبارك" -إن كان لك صبر على القراءة الجادة- فستكتشف الأهوال التى تعرضت لها هذه الجماعة على يد مبارك ومنظومته الإجرامية: فقد اعتُقل خمسون ألف عضو من قيادات الجماعة، ثلاثون ألفا منها فى السنوات العشرة الأخيرة فقط.. تعرضوا لأبشع وسائل التعذيب المادى والمعنوى.. ولم تدخر أجهزة مبارك القمعية وسيلة إلا اتّخذتها فى التضييق عليهم ومحاربتهم فى أرزاقهم، وتلفيق التهم لهم وإثارة الشبهات حولهم.. وقتلت مباحث مبارك أربعة من الإخوان عمداً، كما تم قتل العشرات بالموت البطىء داخل سجونه البشعة.. هذه السجون التى لم تخْلُ يوما من أعضاء الجماعة.. وكان مبارك يقدّم قادتهم لمحاكمات موسمية ممنهجة، بتهم مزيفة.. فإذا قضت المحكمة العادية ببراءتهم، قدّمهم إلى القضاء العسكرى ليحكم عليهم بالسجن وبمصادرة أموالهم.. هذه هى الجماعة التى تقول عنها إنها جماعة مبارك...! ليس هذا دفاعا عن الإخوان المسلمين..إنما هى كلمة حق واجبة على كل منصف.. كلمة قصدت بها أن أكشف عن زيف عينات من الكُتَّاب الذين لا يلتزمون بالصدق وقول الحق.. وبعض السياسيين الذين يمارسون عمليات نصب خسيسة على الناس بكلام كاذب فضفاض لا منطق فيه.. ولو ذهبتُ أفنّدُ كلامهم الذى يبررون به انسحابهم من التأسيسية لاحتجت لعدة مقالات.. لقد انتهيت من تحليل كلامهم إلى أنهم لا يجهلون الحقائق.. ولكنهم يغمطونها ويدلّسون على الناس.. وأقل وصف يمكن أن أصفهم به هو انعدام الأمانة وغياب الضمير عند بعضهم.. والخفة والانتهازية عند بعضهم الآخر.. وهدفهم المشترك تدمير المنجزات الديمقراطية التى حققتها ثورة الشعب.. وما كان لهؤلاء وأولئك أن يتجرأوا كل هذه الجرأة، ويتكتّلوا هذا التكتل ضد الأغلبية الإسلامية فى البرلمان لولا أن التقطوا الإشارة من بيان العسكرى.. الذى يهدّد الجماعة ويحذّرها ألا تنسى دروس الماضى.. والحقيقة أننا جميعًا مدعوّون إلى أن نستوعب دروس الماضى وألا نكرر الوقوع فى الأخطاء، وليس المجلس العسكرى استثناء من هذه النصيحة.. بل هو أولى بها.. فقصته مع من يصفون أنفسهم بالليبراليين، وانحيازه لهم، قصة تفاصيلها معروفة للجميع.. وقد أدّت إلى فوضى واضطراب وتحديات خطيرة للقانون والأمن.. وأوقعت المجلس فى مواجهات عنيفة وأخطاء فاحشة مع الشعب، ويكفى ما تعرّض له رجال فيه من سباب وشتائم بذيئة من الليبراليين يعف اللسان عن ذكرها.. ثم أسوق النصيحة نفسها إلى أولئك الذين أعلنوا الحرب على اللجنة التأسيسية.. وتقديرى أنهم سينهزمون كما هزمهم الشعب من قبل.. ولن ينخدع الشعب لا بالتهديد ولا بترويج الأباطيل، ولا بتحريف المعركة الحقيقية عن مسارها الطبيعى.. الغريب أن هذا كله يحدث فى مصر فى الوقت الذى نسمع فيه من واشنطن (مركز التوجيه والتمويل لقُطّاع الطريق) خطابا أكثر عقلانية وأقرب إلى المنطق والواقع.. لم يفهمه الأتباع، الذين لا يحسنون خدمة سيدهم كما ينبغى.. اقرأ معى ما صرّحت به "فيكتوريا نولاند" المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فى مؤتمر صحفى.. قالت فيه: "إن الولاياتالمتحدة لن تحكم [مُسَبّقًا] على لجنة صياغة الدستور.. فاللجنة جزء من البرلمان المنتخب، وسيتم الحكم عليها من خلال ما تتوصل إليه فى نهاية الأمر.."وقالت:"حيث إنهم قد تم انتخابهم ديمقراطيًا، يتعين عليهم الالتزام بالحقوق الديمقراطية التى أتت بهم إلى السلطة فى المقام الأول.. بما فى ذلك الحقوق العالمية لجميع الفئات.. وهذا هو ما نتوقعه من هذه العملية..."وأوضحت أن تشكيل اللجنة الدستورية لصياغة الدستور، إنما هو خطوة من الخطوات فى عملية التحول الديمقراطى.. وأن "المشروع الذى ستخلُصُ إليه اللجنة سيتم طرحه للاستفتاء عليه من جانب الشعب المصرى.." وقالت أيضًا: "إن الولاياتالمتحدة تؤيد ما ناضل الشعب المصرى من أجله، وهو أن نرى دستورا جديدا لمصر يتمسك بقيم الديمقراطية.. وكل حقوق الإنسان العالمية.. ويوفر الحماية والضمانات لمشاركة جميع المصريين.. بغض النظر عن دينهم أو انتماءاتهم". انتهى الاقتباس.. وهو كلام منطقى وعاقل.. ولا يهم بعد ذلك إن كان هذا تعبيرًا صادقًا عن مشاعر ونوايا حقيقية.. أو اضطرت إليه خضوعا لمنطق الحقيقة واعترافا بالواقع.. فالعبرة عندها –كما رأينا- تتركّز فى نتيجة عمل اللجنة.. ووصفته –بحق- أنه سيكون مجرّد "مشروع" سيُعرض فى نهاية المطاف على الشعب ليقبله أو يرفضه كما يشاء.. ولا معقّب عندئذ على إرادة الشعب واختياره.. تلاحظ أيضًا أنها لم تتورط فى كلام [هايف] مثل قول بعضهم "ألا يشارك نواب البرلمان فى وضع الدستور" بل تسلّم بأن ما قاموا به إنما هو أمر طبيعى لا يتعارض مع الديمقراطية؛ فهم الذين اختارهم الشعب ووثق فيهم وأئمتهم على تمثيله وأوكلهم باتخاذ القرارات بِاسْمه.. ولا يوجد أى سند شرعى أو دستورى لاختيارات غيرهم. هذا هو الدرس الذى لم يستوعبه المهيّجون والمُرْجِفون أعداء الحقيقة وأعداء الديمقراطية فى مصر.. وليس هناك تفسير لضجيجهم سوى أنهم أقلية منبوذة.. ليس لها حضور جماهيرى فى الشارع، تريد أن تستبد بالأمة وتفرض عليها تصوّرها الخاص، ضاربة بإرادة الشعب واختياراته عرض الحائط.. وليس هذا من عمل المفكرين المخلصين ولا السياسيين المحبين لأوطانهم.. وإنما هو عمل العابثين والبلطجية وقطاع الطرق الذين لا يمكن أن يستوعبوا دروس التاريخ وعبره.. ويصرّون – بحماقتهم المعهودة- على تكرار أخطائهم وجرائمهم فى حق هذا الشعب. [email protected]