إذا كان رسول الله (ص) قد لعن المُحَللِ فى الزواج ووصفه بالتيس المستعار، لمشاركته فى استحلال زواج باطل شرعاً، فإن ظاهرة المناقش المُحَللِ للرسائل الجامعية، والذى يشبه التيس المستعار، قد انتشرت فى جامعاتنا المصرية فى العقد الأخير من حكم مبارك، انتشاراً يستحق النظر والتبصر. لمحاصرتها وتحجيمها قبل أن تستفحل وتصبح كارثة قومية. فهل هذا المناقش المُحَللِ هو تيس مستعار بالفعل؟ أم فساد علمى عابر للجامعات المصرية؟ كما هو معروف أن الطالب حينما ينتهى من رسالته للماجستير أو الدكتوراه، يتقدم المشرف على الرسالة باقتراح لمجلس القسم التابع له، بتشكيل لجنة للحكم والمناقشة لتقييمها. وهذه اللجنة عادةً ما تتكون من المشرف نفسه وعضوين آخرين: أحدهما، من داخل الجامعة، والآخر من خارجها. وكما هو متعارف عليه أن هذه اللجنة هى التى تملك القول الفصل فى الحكم على الرسالة. ونظراً لما ورثته جامعاتنا المصرية من تقاليد فى مناقشة رسائلها العلمية، من توافر ضمير ونزاهة فى الأحكام ووجود أساتذة شوامخ، لذا فإن بروز ظاهرة المناقش المُحَللِ فى نهاية عهد مبارك، يعد كسراً لتلك التقاليد، وابتعاداً عن أعراف الجامعة وقوانينها. فهذا المُحَللِ هو شخص غير متخصص فى المجال البحثى الذى يناقش فيه. ومن ثم فهو لا يهتم بالمناقشة من قريب أو بعيد، اللهم إلا بعض الأشياء الظاهرية غير المهمة فى الرسالة، كغلطة نحوية أو كتابة هامش وخلافه. بل فى كثير من الأحيان، لا يعرف من قضايا الرسالة التى دُعى لمناقشتها شيئاً. بل لعل سوء سمعته العلمية هو أحد الأسباب الرئيسية التى جاءت به ليجيز الرسائل الضعيفة، ويحل أمراً غير شرعى. ومن ثم فهو تيس مستعار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولعل الإجابة عن السؤال الذى يطرح نفسه، لماذا انتشرت ظاهرة المناقش المُحَللِ؟، يشى بأن الأمر لم يقتصر على هذا التيس المستعار للمناقشة فقط، بل تعدته لتكشف عن فساد علمى عابر للجامعات. فالإجابة تقول بأن هناك أربعة أسباب رئيسية وراء هذا الانتشار: أولها، الشللية المنتشرة عبر كل الجامعات المصرية. فمن يتابع هذه الظاهرة يجد أن هناك شللاً معينة من المناقشين المُحَللِين تكونت وترعرعت عبر العقدين الأخيرين. ثانيها، تأثر الجامعات بجو الفساد السياسى السائد فى البلاد، واستغلالها فى تصعيد من يريدون تصعيده ليتبوأ منصباً مهماً فى الدولة. ثالثها، تحكم القرابات وأصحاب المصالح وأسر بعينها، ليس فى غالبية الجامعات فقط، بل فى كل قسم من أقسام الكليات والمعاهد الجامعية. رابعها، الضعف العلمى للمشاركين فى تلك الظاهرة. فقد وصل هؤلاء المناقشون لدرجة الأستاذية دون علم أو تعب أو مشقة. ومن ثم فإن عدم مناقشاتهم بجدية فى الرسائل التى أشرف عليها زملاؤهم من أصحاب الفضل فى ترقيتهم، يعتبرونه رداً للجميل، ومشاركة منهم فى تدشين قرابات أولى النعم. أو فخرًا منهم بعدد الرسائل التى ناقشوها وطُلبوا فيها بالاسم. أو لعدم وعيهم بالأسباب التى جعلتهم مشاركين فى المناقشة بالأساس. لكن ما هو أثر تلك الظاهرة على الجامعة، وعلى مستوى الرسائل العلمية نفسها؟ الإجابة تشير بأن هناك خمسة آثار رئيسية: أولها، ضعف المستوى العلمى للباحثين الذين أعدوا تلك الرسائل. فطالما أن الباحث لم يبذل جهداً فى رسالته، وانتظر تدخل المشرف للمجىء له بهؤلاء المُحَللِين، فإن ضعف المستوى العلمى للرسالة والباحث نفسه يعد أمراً طبيعياً. ثانيها، سلق الرسائل العلمية وزيادة أعدادها، دونما أية إضافة حقيقية تقدمها فى مجال التخصص، أو القيام بإنجاز علمى يشرف الباحث. ثالثها، ضعف المادة العلمية للرسائل ذاتها، ناهيك عن ضعف مستواها اللغوى والمنهجى. رابعها، أصبح هَم تلك الشلل القائمة على الفساد العلمى، ليس المشاركة فى المناقشات وتصعيد الزبانية فقط، بل محاصرة الأساتذة الشرفاء وطعنهم بالشائعات غير الشريفة، عند كل من يريد أن يستعين بهم فى المناقشات لينفردوا هم بالأمر كله. خامسها، هناك شلل معينة على مستوى الجمهورية أصبحت معروفة بالاسم. بل تعمل لمصلحتها فقط، دونما النظر للتخصص أو إفادة الطالب أو مراعاة الدرجة العلمية وقداستها. بل إنهم ينصحون تلاميذهم بدراسة موضوعات معينة من ذات تخصص لتلك الشلل، لضمان النتيجة مسبقاً. وفى هذا الإطار يشكل عدد الرسائل التى يناقشها هؤلاء المُحللِون سنوياً، أمراً مزعجاً ومقلقاً لمسيرتنا العلمية. فبعضهم يناقش ما بين 20-30 رسالة فى السنة. مع أن هذا الرقم لا يصل إليه من هم خارج تلك الشلل إلا فى أعوام عديدة. من هنا، فإن ظاهرة المناقش المُحللِ هى ظاهرة خطيرة على مستقبل التعليم فى مصر. فقد أنتجت عدداً كبيراً من مافيا المُحللِين العابرة لجامعاتنا المصرية من أقصاها لأقصاها، وعدداً لا حصر له من الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه. وهذا ما يسبب عواراً فى مشاركة تلك الفئات الضعيفة فى أى عملية تنمية تستهدف تطوير ونهضة بلادنا. لذا نتمنى من الله أن تنتهى تلك الظاهرة بتفكيك تلك الأحلاف الفاسدة وغير الشرعية والضعيفة علمياً، وأن يتم تحجيمها عبر الجامعات أولاً، بإيجاد صيغة قانونية لا تسمح لتلك الظاهرة بالتمدد والاتساع أكثر.