تتوالى في السنوات الأخيرة صيحات العديد من الكتاب والمفكرين في العالم العربي والإسلامي عبر كل وسائل الإعلام ، والقنوات الفضائية علي وجه الخصوص ، المطالبة بتطبيق النظام الديمقراطي الذي يرون فيه الحل السحري لكافة القضايا والمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، وأن التأخر في الأخذ بهذا النظام كمنهج ونظام حياة سيبقي التخلف والاستبداد الذي توصف به أحوال شعوبنا العربية . ولا يستطيع أحد أن يجرد أغلب هؤلاء من الحس الوطني والرغبة الأكيدة في إصلاح أحوال بلادهم ورفع المعاناة عن الشعوب حتى وإن اتصف بعضهم بأنه مجرد صدي لما ينادي به الغرب ويتخذ منه وسيلة للضغط علي الأنظمة السياسية العربية بغية تقديم المزيد من التنازلات والتسليم بمخططات الهيمنة الأمريكية . ومع ذلك فلابد من توضيح بعض الجوانب التي تغافل عنها الكثيرون في هذا الحماس أو الاندفاع نحو هذا الحلم أو الكابوس الذي يسمي بالديمقراطية الذي ينبغي أن نفسر جوانبه حين نستيقظ من نومنا . صحيح أنه أصبح من الضروري لنا نحن العرب والمسلمين أن نسعى لتحقيق قدر كبير من الحرية التي تمثل السبيل الأقوم لتحقيق العدل الاجتماعي ، وصحيح أن النظام الديمقراطي قد يكون أفضل الأنظمة الآن لتحقيق هذا القدر من الحرية ، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا هل نحن ملزمون بأن نأخذ بالنموذج الغربي للديمقراطية ؟ وهل بالضرورة أن نكون مقلدين ؟ أو نعود لنستلهم من النموذج اليوناني فنكون به كما نوصف الآن رجعيين ؟ أو نأخذ بالنموذج الأمريكي لنكون كما نحن الآن تبعيين ؟ أم نحاول أن نستن لأنفسنا نظاما خاصا نحافظ فيه علي خصوصيتنا ونستقيه من تراثنا بحيث يتوافق مع واقعنا وقضايانا ؟ . وقد يسارع البعض إلي القول بأن الشعوب العربية في مجملها ، وحتى الإسلامية ، ليست مؤهلة لصياغة شكل أو نموذج للديمقراطية لكونها تعاني من الأمية السياسية علي الأقل ، وبالتالي ليس أمامها سوي استلهام ذلك النموذج من الغرب علي غرار ما حدث لشعوب شرق أوربا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، وبعض بلدان آسيا وإفريقيا ، وأن هذه الشعوب إن لم تسارع في ذلك ستطول معاناتها من التخلف والاستبداد . لكن هذا البعض لا يلمس في الحقيقة وجدان الشعوب العربية والإسلامية من حيث رؤياها للديمقراطية باعتبارها نظام غربي يرتبط في خصوصيته بشعوب الغرب والأخذ به لدي العرب والمسلمين يمس كبرياءهم الحضاري من حيث المبدأ ومن جوانب أخري هي : أن الديمقراطية الغربية ونظامها الرأس مالي لا تحقق في نظر المسلم قدرا وافيا من العدل الاجتماعي مهما كانت مظاهر الحرية المحيطة بها ، فالحرية في المجتمع الرأسمالي نسبية حيث تضمن لأصحاب رأس المال حرية الاستئثار بكرسي صنع القرار ، في حين تكون الحرية الممنوحة لمن لا يملك محدودة وقاصرة علي اختيار صناع القرار ووفق منظومة تحكمها المصالح لا المبادئ ، مع أنها تحافظ علي قدر كبير من حقوق الإنسان وحريته إذا ما قيست بالأنظمة الأخرى مما يجعلها تبدو كنظام أمثل يجب الأخذ به . أن انحصار الثروات في يد قلة من الأفراد في المجتمعات الرأسمالية الآخذة بالنظام الديمقراطي وهم صناع القرار ، والسعي إلي تحويل العالم إلي هذا النظام فيما يسمي بالعولمة أو النظام العالمي الجديد يجعل صنع القرار الاقتصادي العالمي بتأثيره الفاعل في يد هذه القلة المحدودة التي تجمعها وتتحكم في مسارها ومصالحها مؤسسات مالية مهيمنة علي نمط البنك الدولي فيما يسمي بدكتاتورية رأس المال . وليس بخفي أن هذا التوجه علي المدى البعيد يحقق حلم الحكومة الجمهورية الديمقراطية العالمية الخفية التي يتزعمها ويعمل لها اليهود بحكم سيطرتهم علي نصيب هائل من رأس المال ووفق ما نص عليه البيان الماسوني المؤرخ في 1744 م . ولعل من دلائل ذلك قدر تحكم اليهود في مساحة كبيرة حول صنع القرار في البلدان الغربية الآخذة بالنظام الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي في أوربا وأمريكا . ومثل هذا الأمر يفرض بالضرورة الملزمة علي الشعوب العربية والإسلامية طرح نموذج أو منهج إصلاحي عصري يخصها ووفق ظروفها وثقافتها ليتخلصوا به ومن خلاله من التبعية ومن سوءات المخطط الغربي اليهودي وفي نفس الوقت يسهم من خلال الالتزام بالقيم والمفاهيم الإسلامية للحد من استبداد رأس المال . لابد أن ندرك أن الغرب يغلب مصالحه علي مبادئه ، فالدعوة للديمقراطية وحقوق الإنسان دعوة جوفاء يؤكدها سلوك الغرب في سبقه في الاعتداء علي حقوق الإنسان في كل مكان حتى داخل أمريكا نفسها ، وبدت سوءاته وادعاءاته في أفغانستان والعراق وجوانتينامو وسجن أبو غريب والسجون السرية في أوربا والشرق ووسائل التعذيب والقتل واستخدام كل محرم من سلوك وأسلحة ، بل والتنازل عن مطلب الديمقراطية ومساندة الأنظمة الشمولية التي ساعدته في ضرب وحصار واحتلال العراق . كما أن عداءه المعلن لكل ماهو مسلم جعله يضيق بالديمقراطية التي قد تفرز الأصوليين المسلمين ، فساند تحجيم جبهة الإنقاذ في الجزائر رغم وصولها بطريق الديمقراطية ، وساند النظام في مصر لتحجيم التيار الإسلامي واستمرار فرض الحظر علي نشاطه السياسي ، وعلي نفس النسق هددت إسرائيل بتخليها عن تعهداتها إذا نجحت حركة حماس الفلسطينية في الانتخابات التشريعية ، فهل في ذلك ديمقراطية أم هو مخطط مشبوه مخادع ؟ وهل تملك هذه القوي من الشجاعة أن تواصل تشويه الأنظمة السياسية الأخري حتى الاستبدادية منها ؟ علي أن ذلك لا يعني تبرير الاستبداد أو رفض الديمقراطية لكنه توضيح لأبعاد الديمقراطية أو أي نظام يحقق الحرية والعدل يناسب الشعوب الإسلامية ويستمد قيمه من مفاهيم الإسلام وحضارته . إن رفض الأخذ بالنموذج الديمقراطي الغربي الذي يسعون لفرضه لا تقف أمامه الأنظمة السياسية العربية فقط بل ترفضه أغلب الشعوب الإسلامية سواء لمحتوي هذا النموذج الذي يتعارض مع موروثهم الثقافي الإسلامي أو لكونه مفروض من أمريكا ذات الرصيد والواقع المكروه لدي كل ما هو مسلم أو حر في العالم المعاصر . إنه لا ينبغي مجاراة المشككين في أن المنهج الحضاري الإسلامي لا يشكل مصدرا أساسيا لاستلهام نظام سياسي عصري يحقق الحرية والعدل الاجتماعي يكون بديلا لنا وربما لغيرنا عن النظام الديمقراطي الليبرالي . وأن علي المفكرين المسلمين العمل علي طرح هذا النموذج الإسلامي تحت أي مسمي شوري أو ديمقراطية أو الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية وفي مناخ حر لابد أن توفره الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي أو تفرضه الشعوب . ولعل الصحوة الإسلامية وبخاصة علي الصعيد السياسي في مصر والسودان والمغرب واليمن وغيرها تؤكد أنه القادم لا محالة لكونه يمثل التعبير الأكثر قربا من قلوب ومصالح الجماهير التي تمثل الضامن الحقيقي لحمايته مهما تخيل أعداؤه أو رافضوه . * أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر