ما إن أعلنت لجنة الاستفتاء في بريطانيا عن فوز معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي, إلا وحذر كثيرون من أن هذا التطور من شأنه أن يدخل المملكة المتحدة نفسها وأوروبا بصفة عامة, منطقة المجهول. بل وذهبت تحليلات أيضا إلى ما هو أسوأ, حيث توقعت تفكك الاتحاد الأوروبي, بل وتفكك بريطانيا نفسها, في ظل صعود اليمين المتطرف بشكل خطير غير مسبوق. ولعل المؤشرات التي ظهرت عقب إعلان نتيجة الاستفتاء, قد تزيد المخاوف السابقة, حيث تراجع الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته أمام الدولار منذ العام 1985، فيما دعا زعيم حزب الاستقلال البريطاني (يوكيب) المناهض للاتحاد الأوروبي والمهاجرين، نايجل فاراج، رئيس الحكومة ديفيد كاميرون، إلى الاستقالة فوراً، بينما قالت رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا سترغون إن بلادها ترى مستقبلها داخل الاتحاد الأوروبي, وهو ما من شأنه أن يعيد الجدل في استكلندا حول الاستقلال عن بريطانيا, وقد يمهد الطريق لاستفتاء جديد حول الاستقلال. وفي إيرلندا الشمالية، دعا حزب الشين فين المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي إلى تنظيم استفتاء حول إيرلندا موحدة. وأوروبيا, دعا الزعيم اليميني المتطرف الهولندي المعارض للهجرة، جيرت فيلدرز، إلى استفتاء على عضوية هولندا في الاتحاد الأوروبي, بعد أن صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد, الذي كان يتشكل من 28 دولة. ونسبت "رويترز" إلى فيلدرز قوله في بيان له : "نريد أن نتولى مسئولية إدارة شئون بلدنا وأموالنا وحدودنا وسياستنا للهجرة". كما دعت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان إلى استفتاء أيضا على الخروج من الاتحاد الأوروبي "في فرنسا وفي دول الاتحاد الأخرى". وكتبت زعيمة حزب الجبهة الوطنية في تغريدة على حسابها على تويتر "انتصار الحرية! كما أطالب منذ سنوات، يجب الآن إجراء الاستفتاء نفسه في فرنسا والدول الأخرى في الاتحاد". كما كتب فلوريان فيليبو نائب رئيس الحزب في تغريدة على تويتر "حرية الشعوب تفوز دوما في النهاية. برافو للمملكة المتحدة.. الدور علينا الآن". وفي مقابل ردود الفعل المرحبة بنتائج الاستفتاء البريطاني والدعوة لاستفتاءات مماثلة في عدد من الدول الأوروبية الأخرى, قال رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز إن "بريطانيا اختارت أن يكون لها مسار خاص بها وسيكون مسارا صعبا جدا", كما قال وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير إن "الأنباء من بريطانيا مقلقة.. يبدو أنه يوم حزين لأوروبا والمملكة المتحدة". وفي السياق ذاته, أكد رئيس اتحاد المصدرين في ألمانيا أن نتيجة الاستفتاء البريطاني "كارثية لبريطانيا وأوروبا وألمانيا وخصوصا الاقتصاد الألماني". وبدورها, قالت وكالة الأنباء الفرنسية إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمقتضى الاستفتاء الذي تمَّ الخميس الموافق 23 يوينو، ستكون له تداعيات سلبية على البريطانيين، سواء المقيمون منهم في بلادهم أو في دول أوروبية، وسيشمل ذلك مجالات من بينها حرية التنقل والقدرة الشرائية والوظائف. فالنسبة للبريطانيين الذين يعيشون داخل المملكة المتحدة، سيواجهون مشكلة في التنقل داخل باقي دول الاتحاد الأوروبي. فحتى الآن يستطيع البريطاني ببطاقة هويته وحدها التحرك داخل فضاء شنغن (حتى إن لم تكن بريطانيا عضوا فيه)، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون البريطانيون ملزمين بالحصول على تأشيرة دخول لزيارة دول الاتحاد السبع والعشرين الأخرى. كما أن الأسر البريطانية ستضطر لإنفاق أموال أكثر من السابق لقضاء إجازاتها في أوروبا بسبب تدهور قيمة الجنيه الإسترليني الذي تراجع أمام اليورو، وهبط مباشرة بعد صدور نتيجة الاستفتاء بحوالي 10%، وكذلك لأنها ستفقد امتيازات السفر عبر شركات الطيران المنخفض الكلفة, وكل ذلك سيقلص من القدرة الشرائية لتلك الأسر. وقد يؤثر الخروج من الاتحاد الأوروبي سلبا على الكثير من وظائف البريطانيين، خاصة في البنوك الكبرى، بالإضافة إلى الموظفين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وسبق أن أعلن بنك "جي بي مورغان" الأمريكي نيته إلغاء ما يصل إلى أربعة آلاف وظيفة في بريطانيا، في حين يعتزم بنك "مورغان ستانلي" نقل ألف -من مجموع ستة آلاف وظيفة لديه في بريطانيا- إلى الاتحاد الأوروبي، كما ينوي بنك "غولدمان ساكس" نقل 1600 وظيفة على الأقل. ويتوقع أن تشمل التداعيات السلبية أيضا 1.3 مليون بريطاني يقيمون في أوروبا، يتوزعون خصوصا على إسبانيا (319 ألفا) وإيرلندا (249 ألفا) وفرنسا (171 ألفا) وألمانيا (100 ألف). كما أنه بسبب تدهور سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل اليورو، في الفترة المقبلة على الأقل، فقد تنهار عائدات المتقاعدين البريطانيين، وقد تحدث مشاكل أخرى للجاليات البريطانية التي تتمتع بالتغطية الصحية بموجب اتفاقات ثنائية مع بعض الدول على غرار فرنسا. وفوق ذلك، قد يتعين على البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي الحصول على تراخيص عمل. على صعيد آخر، قد يعقّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العلاقات مع بعض جيرانها. فقد تفكر إسبانيا في غلق حدودها مع جبل طارق وهي مستعمرة خاضعة لبريطانيا، وتبلغ مساحتها ستة كيلومترات مربعة، وملتصقة بإقليم الأندلس ويعيش فيها 33 ألف بريطاني. كما يمكن أن يؤدي الوضع الجديد لبريطانيا إلى إقامة حدود بين إيرلندا الشمالية الخاضعة للحكم البريطاني, وجمهورية إيرلندا، وهو ما من شأنه أن يؤثر على حركة آلاف الأشخاص يوميا. وكانت جيني واتسون رئيسة لجنة الاستفتاء في بريطانيا أعلنت عن تصويت 51,9 من البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي, مقابل 48.1% عبروا عن تأييدهم للبقاء فيه, وذلك في الاستفتاء الذي جرى الخميس الموافق 23 يونيو, بعد عضوية استمرت 43 عاما. واختارت جميع الدوائر الانتخابية في أسكتلندا البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث صوت 62% من الناخبين الأسكتلنديين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح البقاء في الاتحاد، بينما أيد 38% الانسحاب. وقبل الاستفتاء, أعلن الحزب القومي الأسكتلندي بزعامة سترغون أنه سيكون هناك تصويت شعبي آخر في حال إجبار أسكتلندا عن الانسحاب من الاتحاد ضد رغبتها. وفي تصويت شعبي جرى عام 2014، اختار الناخبون الأسكتلنديون البقاء كجزء من بريطانيا. ومن جهته, توقع الزعيم السابق للحزب القومي الأسكتلندي أليكس سالموند أن يدعو الحزب إلى استفتاء جديد على استقلال أسكتلندا عن بريطانيا. ونقلت "الجزيرة" عن سالموند قوله :"الحكمة تقتضي عدم خروج أسكتلندا من الاتحاد الأوروبي أبدا". ومن جهته, ذكر حزب الشين فين القومي الإيرلندي أن الحكومة البريطانية خسرت "أي تفويض" لتمثيل مصالح الشعب في إيرلندا الشمالية. وقال رئيس الحزب ديكلان كيرني في بيان له إن الاستفتاء أسفر عن "أصوات إنجليزية أسقطت رغبة الشعب هنا في شمال إيرلندا، حيث صوت الجمهوريون والوحدويون والكاثوليك والبروتستانت لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. وأضاف كيرني "النتيجة تغير بشكل كبير المشهد السياسي في شمال إيرلندا، وسنكثف قضيتنا للدعوة إلى تصويت عبر الحدود بموجب بنود اتفاق الجمعة العظيمة"، في إشارة إلى تصويت عبر الحدود بشأن إيرلندا موحدة". وأنهى اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي تم إبرامه عام 1998 بشكل رسمي عقودا من الصراع الطائفي في إيرلندا الشمالية. وفي حالة التصويت النهائي في البرلمان البريطاني على الخروج من الاتحاد، فإن إجراءات الخروج وترتيباته ستستغرق عامين. وكانت بريطانيا تقدمت عام 1961 بطلب عضوية في الكتلة الأوروبية، وانتهت عضويتها في 23 يونيو 2016 بتصويت 51.9% من البريطانيين لفائدة الخروج من حضن الاتحاد. وقالت مجلة "دير شبيجل الألمانية" تعليقا على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي : "أوروبا ماتت", ونشر الصحفي بالمجلة "ماثيو فون رور"، على حسابه بموقع "تويتر" صورة لغلاف المجلة مكتوب عليه: "أوروبا ماتت".