مازالت صيحات المنادين بالديمقراطية كحل سحري لكافة المشاكل والقضايا لشعوبنا يرون بريقها في النموذج الغربي ويستبعدون , أو يرفضون , إمكانية صياغة نموذج عصري من تراثنا الحضاري الإسلامي . ويستند هؤلاء علي كثير من جوانب التطبيق التاريخي في العصور الإسلامية منذ بداية العصر الأموي وكيف أن كثيرا من جوانب الفقه السياسي قد تمت صياغته لخدمة السلطة المركزية ولتضييق الخناق علي حرية الشعوب . ولم يحاول أحد أن يستدل علي بعض المحطات التاريخية التي استرشد فيها الحكام المسلمون برأي العلماء أو العامة , أو ذكر دور بعض الفقهاء والعلماء الذين عبروا عن رفضهم للطوق السياسي الذي أنقص من حريتهم أو قلل من دعمهم للعدل . وربما يكون ذلك راجعا إلي كون هذه الفترات محدودة في الحجم وفي الفترة الزمنية وأنها تعد استثناء لفترة طويلة من حكم المسلمين الفردي . علي أن ما ينبغي إدراكه هو أن فترات التطبيق التاريخي الإسلامي في مجموعها وبما تحمله من تراكمات سلبية في الغالب لا تشكل حكما قاطعا أو موضوعيا علي المنهج السياسي الإسلامي الذي يري كثير من المسلمين ضرورة الاهتداء بأسسه في طرح تصور سياسي معاصر , فهو منهج يرتكز علي كليات قيميه تشكل إطارا يمكن التحرك من خلاله وفق ظروف الزمان والمكان . وإذا كانت هناك ثوابت للنظام الديمقراطي الليبرالي الغربي يرتكز عليها فإن العودة إلي أصولها عند الاهتزاز أو الخروج عليها يعد أصولية أو رجعية كالتي نوصف بها , وأن هذه الثوابت لا تستوجب الإلغاء أو الترك لمجرد عدم الالتزام بها في التطبيق التاريخي , فهل عدم احترام ثوابت الديمقراطية وتركز الحكم في يد قلة متطرفة تمثلها حكومة المحافظين الجدد في أمريكا تضيق الخناق علي الحرية داخل أمريكا وخارجها علي كل الشعوب وسلك سياسة البلطجة والعدوان يدعو لرفض الديمقراطية ؟ وما بقيت الحرية هي أهم الأهداف المرجوة للشعوب وفق أي نظام سياسي يوصف بالعصرية فإن أي مفكر يتسم بالموضوعية يدرك أن الحرية تمثل أهم الثوابت في المبادئ الإسلامية وأنها تفوق ما عداها في الأيديولوجيات المعاصرة لو أحسن تطبيق وفهم أبعادها . فحرية الاعتقاد وحرية التعبير وحرية الفكر وحرية العبادة كلها ثوابت إسلامية , فتأمين الناس علي أرزاقهم وأعمارهم والتي تكمن وراءهما دوافع الصراع البشري أمنتهما أسس الإيمان في الإسلام , فالمسلم عليه الأخذ بالأسباب ويتحرر من كل إنسان ويرتبط بالله وحده , وتصبح القضايا الحركية السببية التي يجب عليه القيام بها غير مكبلة بسلطة أو قيد ويعمل وفق هذه المبادئ ولأجل نصرتها والحفاظ عليها . لقد كانت حرية الاعتقاد هي الدافع لإقبال العديد من الشعوب علي الإسلام كتلك التي في شرق آسيا علي سبيل المثال , وكذلك في شرق أوربا الذين أقبلوا علي الإسلام هروبا من عبودية الإقطاع الديني , وظل الكثير علي ديانته المسيحية دون إجبار أو قهر مثل اليونان والصرب والكروات والبلغار وغيرهم في ظل التمسك بحرية الاعتقاد الذي طبقته الخلافة العثمانية , في حين وجد النقيض الذي مارسه أدعياء الحرية ضد المسلمين في الأندلس وضد البوسنة والألبان الذين يعانون من أسوأ ألوان القهر من أدعياء التحضر وحقوق الإنسان . أما عن الحرية السياسية في المنهج والتاريخ الإسلامي فقد وجدت بشكل أكبر في عصره الأول حين أصدر النبي صلي الله عليه وسلم دستور المدينة وأكد فيه علي وحدة المواطنة والمساواة بين كل سكان الدولة مع اختلاف الديانة أو العرق . وبدت جلية في طريقة اختيار أول خليفة للنبي وكذلك في دستوره في الحكم " أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم , إن رأيتموني علي حق فأعينوني وإن رأيتموني علي باطل فقوموني , إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق له " . وبدت كذلك في مرسوم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لواليه في مصر انتصارا لقبطي مصري ذهب إلي الخليفة شاكيا " متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " . ثم يؤكد القرآن الكريم دستور المسلمين علي حقيقة هامة من خلال ما ذكره الله عن فرعون حاكم مصر " استخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين " فهي قاعدة سياسية تذم الحاكم الذي يستخف بشعبه وتذم الشعب الذي يقبل باستخفاف الحاكم به. وهناك نماذج أقرها التطبيق الإسلامي الأول في اختيار الحاكم السياسي أو رئيس الدولة ودون التقيد باسم ثابت له , فاختيار أبو بكر كان بعد مناظرات بين مرشحين حتى تمت بيعته من الصفوة ثم من الأغلبية , واختيار عمر كان بالترشيح المباشر , مجرد ترشيح لا فرض , وتمت البيعتين , واختيار عثمان كان من بين عشرة مرشحين , واختيار علي جاء من الصفوة فيما يمكن وصفه بحالة الطوارئ . نماذج مختلفة وليست جامدة . لعل هذه الثوابت وغيرها من القيم والمبادئ الإسلامية التي تقدم في مجموعها منهجا يحقق العدل والحرية والمساواة لجديرة بأن تكون مصدرا هاما يستلهم منه المسلم نماذج متجددة زمانا ومكانا يحفظ بها ومن خلالها بدلا من التطفل علي موائد اللئام الكارهين للإسلام . * أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر