نسبة لا بأس بها منهم طيبون، ظلوا على فطرتهم التى خلقهم الله عليها، ونسبة أكبر شرسون، يتعاملون مع الدنيا على أنها غابة كبيرة يحتلون منها موقع الأسد بما لهم من أنياب ومخالب. أما النسبة العظمى منهم فشحاذون يتحركون بيننا بمنتهى الحرية. الطيب والشرس والشحاذ هى التقسيمات الرئيسية، أما التقسيمات الفرعية فإنها تقوم على الجمع بين صفتين. وحيث إن الطيبة والشراسة لا تجتمعان فى شخص واحد، فإنه لا يبقى أمامنا إلا احتمالان: أبدأ بالجمع بين الطيبة والشحاذة وهى صفة موجعة للقلب، مهدرة للكرامة، فائقة الخطورة! ولكنى - وقبل أن أستطرد فى طرح حكمة هذا الأسبوع - أستجمع شجاعتى وَأُنِيبُ أمرى لله، وأقول: إن المقصود بهذا المقال هو جهازنا الأمنى المسؤول الأول عن تطبيق القانون وحفظ النظام وتمكين المستضعفين وإنصافهم. أعود لخطورة الجمع بين الطيبة والشحاذة، وأذكر أنى وكل مسافر أو عائد نضيق بالتهانى التخيلية التى تخرج مع ابتسامات غير مقنعة: «كل سنة وانت طيب يا باشا»، تزعجنى التهنئة، كما يزعجنى لفظ «باشا» الذى أدرك تماماً أنى مُنحته لحظياً كإجراء احتياطى يعيننى على إخراج زكاة السفر أو العودة بالسلامة، وهى زكاة لم تَرِدْ فى أى دين. أقول: يُلحق لفظ «باشا» بالتهنئة احتياطياً، فإن لم تكن من ضعاف القلوب الذين يبادرون بإخراج ورقة موقعة من محافظ البنك المركزى، فربما تكون من هؤلاء المصابين بجنون العظمة، فتمارس تَعَالِيَكَ على خلق الله بمنحة لِمَنْ قَبِلُوا أن تتحول ذراع العدالة إلى ذراع للشحاذة. ما كل هذا الرغى؟ باختصار.. كنت أمرر حقيبة يدى من جهاز التفتيش، وشاهدت أمامى سائحاً يُطلب منه فصل رأس شفرة الحلاقة الرفيعة لأنها ممنوعة، وحين طلب منى رجل الأمن فتح حقيبتى بادره زميله الواقف إلى جوارى بالقول: «الباشا مايفتحش حاجة»، ونظر لى نظرة أعرفها تماماً، نظرة تساوى ما بين عشرين وخمسين جنيهاً، نظرة لا تزيدنى إلا إصراراً على رفض الشحاذة التى لا يفصلها فى هذه الحالة عن الرشوة إلا خيط رفيع. وحيث إنى أصنف نفسى- وفقاً للتعبيرات المعاصرة - ناشطاً للتصدى للرشوة والشحاذة معاً، فقد استدرت للجالس أمام شاشة المراقبة، وفتحت حقيبتى، وأخرجت بنفسى شفرة مماثلة للتى يستخدمها الخواجة.. «أمال إيه؟» وبسرعة طارت إلى مخى فكرة أزعجتنى جداً. فكرة أنه باستطاعتك أن تخطف طائرة بخمسين جنيهاً فقط، أو ربما أقل حين تجتمع الطيبة مع الشحاذة. والاحتمال الثانى هو الخطورة القصوى المتمثلة فى الجمع بين الصفتين الثانية والثالثة. إن اجتماع الشراسة مع الشحاذة لابُدَّ أن يؤدى إلى البلطجة، ويا ويلك وويلى من بَلْطَجَةِ مَنْ هم فوق المحاسبة. أقول هذا غَيْرَ غافلٍ عن الحالات المدوية التى يتدخل فيها سيادة النائب العام بنفسه، كما أعلم أن السيد وزير الداخلية قد أصدر تعليماته فى عدة حالات بمحاسبة بلطجية النظام الأمنى وتوقيع العقاب الرادع عليهم، ولكنى مدرك أنه مازالت فى بلادنا أزمة حقيقية تتمثل فى عدم تنفيذ القانون وتطبيق الأحكام فى حالات كثيرة. فعلاوة على تراكم القضايا الشديد الذى يؤدى إلى تأخر صدور الأحكام، فإن مشكلاتنا الحقيقية تتمثل فى تنفيذها. مشكلة أخرى دائماً ما تؤرقنى وهى عدم شعور الشخص الشريف بأنه مُرَحَّبٌ به فى أقسام الشرطة، إن لم يصاحبك قريب أو صديق لأحد العاملين فى القسم، فإن عليك أن تعمل ألف حساب للتوجه إلى القسم شاكياً. فى بلاد أخرى يطالب الناس بحسن معاملة الجانى المجرم المتلبس بارتكاب جريمة ما، يعامل وفقاً لقواعد دقيقة، فما بَالُنَا بصاحب الشكوى أو البلاغ؟ لست جاحداً ولا منكراً للعبء الكبير والمسؤوليات المعقدة التى تتحملها الأجهزة الأمنية بتخصصاتها المختلفة، ولكنى مقتنع بأن جهازنا الأمنى الذى فاق عدده «المليون ونصف» يمثل طاقة هائلة كذراع للعدالة يجب ألا يحمله إلا الطيبون، والطيب الذى أعنيه ليس هو من سخروا منه فى الأفلام والمسلسلات المصرية واتهموه بالبلاهة، الطيب الذى أعنيه فى منتهى القوة: قوة الحق والعدل والقانون، أو هكذا فقط يجب أن يكون، أما الشرس والشحاذ فلا حاجة بنا لهما. أَمِنَ الحكمة أن نظل نبحث عن أولويات الإصلاح، فنتحدث تارة عن التعليم، وتارة عن تنظيم الأسرة، وتارة عن الإصلاح السياسى، مع أنها واضحة زى الشمس؟ [email protected]