تطورت هذه السلسلة على القول بأن المسألة فى حوض نهر النيل فى جوهرها صراع موارد استراتيجية مشتركة وليست صراعاً حول ممكنات إدارة موارد وعقلانية الاستغلال المشترك، ويقصد بصراع الموارد الاستراتيجية ذلك الصراع الذى يكون فى الأساس حول تكوين المورد المشترك وتقسيمه. فى هذا السياق تصير المسألة غير متصلة بخبرة إدارة شؤون المياه ولكن متصلة ببناء استراتيجية لتأمين مؤسسية السيطرة على الجزء المشترك مع الآخرين فى سياق منهج تعاونى استراتيجى تنظيمى مع الشركاء. بناء على هذه الاستراتيجية يكون لخبراء العلاقات الدولية والتنظيم الدولى وعلماء الاجتماع والانثروبولوجى والاقتصاد وخبراء مناطق جيواستراتيجية دور فعال وحاسم فى بناء الموقف المصرى الجديد. مصر عهدت بالمفاوضات لخبراء المياه، ولكن تعوزهم الخبرة والدراية فى الفرق المنهجى بين الصراع حول إدارة الموارد المشتركة والصراع حول تكوين المورد وتقسيمه. دعنى أولا أحدد كيف تطور الصراع الحالى بين الفريقين دول المنبع ودول المصب وهما مصر والسودان: أولا، دول المنبع: 1- الضغط على المفاوضات المصرية - السودانية، ودفع الدولتين إلى تليين مواقفهما التى تبدو متصلبة على حد فهم دول المنبع. 2- تعضيد مواقف الشركاء من دول المنبع الأكثر اعتدالا، ودفعهم إلى أخذ موقف أكثر تشددا، وعدم الإذعان إلى نداءات التوافق مع دول المصب. 3- البعث برسالة إلى الرأى العام فى بلاد المنبع بأن موارد البلاد الطبيعية أصبحت تحت سيطرة أصحابها. 4- دفع البنك الدولى الذى يمثل الدول المانحة إلى تبنى سياسات أكثر اعتدالا تجاه دول المنبع وأقل تحيزا لدولتى المصب. 5- إرسال إشارة إلى المستثمرين الذين يرغبون فى المشاركة فى مشروعات مائية تنموية بدول المنبع بأن لهذه الدول كامل السيطرة على مواردها المائية بغض النظر عن موافقة دول المصب. ثانيا، كان من الطبيعى أن ترفض دول المصب، مصر والسودان، بكل قوة، مثل هذه الضغوط، بل وأن تقابلها بردود قد تكون أكثر ضراوة، والتى كان منها: 1- بدأت الخطوة الأولى عندما بعث الرئيسان مبارك والبشير برسائل إلى رؤساء دول المنبع يطلبان فيها إعادة المفاوضات إلى طاولات التفاوض واستئنافها. 2– العمل على أن تؤثر مصر والسودان بما لهما من علاقات ودية مع دول المنبع الأكثر اعتدالا والأقل اعتمادا على مياه النيل، وأهمها جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندى، على مواقف هذه الدول. 3- من الطبيعى أن تتجه مصر والسودان إلى الدول التى تشارك فى أى مشروعات فى حوض النيل للمطالبة بوقف هذا الدعم الذى يمكن أن يكون له تأثير على حصص البلدين بشكل سلبى. 4– العمل على التنسيق مع الدول التى تقدم الدعمين الفنى والمالى إلى دول المنبع، فى محاولة لوقف هذه المعونات والمساعدات إذا لزم الأمر. 5- الاتصال المستمر بالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وكل الجهات والبلاد الداعمة لمبادرة حوض النيل للتأكيد على الاستحقاقات المصرية والسودانية فى مياه النيل. 6- مطالبة أطراف أخرى تتمتع بمصداقية وصداقة دول المنبع ودولتى المصب للتوفيق فيما بين الجانبين وتقليل الفوارق بين وجهات النظر. 7- الدراسة المتأنية للوضع القانونى للقضية وكل الآراء والاحتمالات المتصلة بها، والتركيز على ما يدعم الحقين المصرى والسودانى وإقناع كل الأطراف بهذه الحقوق. 8- البدء فورا مع السودان فى دراسة مشروعات استقطاب الفواقد من منطقة جنوب السودان وتنفيذ ما هو جاهز للتنفيذ منها. هذا الموقف الصراعى حول تكوين المورد المشترك وتقسيمه بين الطرفين يبدأ التعامل الفعال المصرى والسودانى معه بالاعتراف المتبادل بأن المياه قضية أمن قومى لكل طرف ولكن فى سياق التعاون المشترك. وهذا المفهوم «الأمن القومى للدولة ولكن فى سياق التعاون المشترك» هو مفهوم بدأته مصر وقطعت شوطا كبيرا فيه من خلال تنمية وتعزيز العلاقات الإيجابية مع دول حوض النيل، من خلال تنفيذ العديد من المشروعات الكبرى، والتى تعود بالمنفعة لصالح دول وشعوب الإقليم. تمثل ذلك فى أولا: المشروع المصرى الأوغندى لمقاومة الحشائش المائية وذلك بتكلفة إجمالية بلغت 18.4 مليون دولار، مما أسهم فى عودة الحياة الطبيعية وانتعاش الحركتين التجارية والاقتصادية وتحسين نوعية المياه، إضافة إلى عودة مناسيب المياه لمعدلاتها الطبيعية ببحيرة فيكتوريا وانحسار المياه عن قرى الصيادين والحد من انتشار الأمراض والأوبئة وتسهيل الملاحة النهرية، وجار حاليا إنشاء 10 سدود لحصاد مياه الأمطار بشمال وشرق أوغندا بتكلفة 2 مليون دولار، كما يتم الآن الاتفاق على تفعيل منحة بمبلغ 4.5 مليون دولار تم توقيعها خلال شهر يناير 2010 لتنفيذ سدود لحصاد مياه الأمطار وحفر آبار جوفية. ثانيا: تتضمن منظومة التعاون الجارى بين مصر ودول الحوض أيضا حفر 180 بئرا جوفية بالمناطق القاحلة بكينيا بتكلفة 6.18 مليون دولار، وجار الاتفاق على حفر 20 بئرا أخرى بتكلفة 1.5 مليون دولار، بالإضافة إلى حفر 30 بئرا بتنزانيا بتكلفة 2 مليون دولار، كما أثمرت الزيارة الأخيرة لتنزانيا لحضور الاحتفال بمرور 10 سنوات على مبادرة حوض النيل، عن توقيع اتفاقية تعاون مع تنزانيا لتنفيذ عدد 70 بئرا جديدة بتكلفة 5 ملايين دولار لخدمة أغراض الشرب والزراعة لمواطنى تنزانيا.. ويستمر التحليل فى المقال المقبل والأخير فى السلسلة.