«حالف لأشرب من زيرك، لو كان المية طين.. أتمايل وأنا أبوسك يا رباية السلاطين». يدور فى رأسى الكلام والصوت والحركة لتلك السمراء فارعة الطول التى رأيتها فى البلاد البعيدة. قضيت أسبوعا كاملاً بلا موبايل ولا تليفزيون ولا حتى صحيفة، أسبوع خارج التغطية، هكذا فكرت فى كتابة عنوان هذا المقال، بعيداً عن «الحضارة» أو خارج التغطية. الحياة خارج التغطية، حياة كاملة، لا تحس فيها بالصداع، تصحو فيها من نومك دونما النظر إلى شاشة الموبايل، لا تحاول أن تتنصت الأخبار، فقط تصحو مستقبلاً يوماً جديداً، بكل علاماته الطبيعية، شروق الشمس وانتصاف النهار والغروب. كان من أقرب الناس إلى فى ذلك الأسبوع اثنان من أبناء أخى، عمر الأول ثمانية أعوام والثانى خمسة. جاءا إلىّ ذات صباح ومعهما بيضة يمامة، أو ما نطلق عليه هنا اسم «القمرية»، وطائر القمرى أصغر من الحمامة قليلاً، بنى اللون، له صوت جميل مربوط فى الذاكرة المحلية بالتسبيح والدعاء. «ثم السلام ألف تحية، ما غرد القمرى فى حب الله». قال ابن أخى الأكبر: «شفت بيضة القمرية يا عمى؟» قلت: مالها؟ قال: صحبتها ماجتش ليها خمستيام» أى أن (صاحبتها لم تأت إليها منذ خمسة أيام) أحط البيضة فى عش تانى؟ نظر إليه أخوه الأصغر الذى كان يستمع إلى الحديث بنهم، «خليها مطرحها (أى دعها فى مكانها)، لو حطيتها فى عش تانى القمرية تتخربط فى البيض (أى لن تعرف القمرية أى بيضة لها وأى بيضة لغيرها وتختلط الأنساب)». وحملا بيضتهما ورحلا. لا أخفيك سراً، إن قلت لك إننى اشتقت إلى قراء الصحيفة بعد أربعة أيام، فسألت أحدهم: الجرايد مبتجيش هنا؟ ألا تأتى الصحف إليكم؟ الجورنان؟ هكذا يعرفونها ينطقونها. قال لى رجل فى متوسط العمر: مالك بالجورنان؟ أى ماذا تريد من الجورنال؟ رفع وجهه ونظر إلىّ نظرة العارف المتمرس وقال «إنت فاكر أفلام زمان لما كان المخبر يعمل خرمين فى الجرنان ويبص لك من وراهم؟ قلت: فاكر، ولكن ما علاقة ذلك بسؤالى؟». قال: «زمان كان المخبر ينظر لك من ورا الجورنان، دلوقتى (الآن) يطلع لك فى الجورنان نفسه، الناس بقت جن وليس من بنى الإنس، اليومين دول، يا عمى صلى ع النبى». تفكرت فى العبارة ومعانيها العميقة بعد أن تركنى، وقلت فى نفسى هذه هى قمة النقد لصحافة اليوم، ولكن صاحبى أطلقها ومشى فى حال سبيله. عاد ولدا أخى فرحين، ولم أعرف سبب فرحتهما هذه المرة، كادت الفرحة تنسكب خارج عيونهما الصغيرة، فنظر إلىّ الأصغر قائلاً وهو يقفز فوقى، «يا عمى، القمرية جات» أى عادت اليمامة إلى عشها، قالها وهو يتشبث بى كقرد صغير من أنواع الشمبانزى. عودة اليمامة كانت بالنسبة لهما حدثاً كبيراً (بريكنج نيوز). لما ذهبنا إلى حفل كان قريباً منا، أحسسنا أننا لم نسر من قرية إلى قرية تبعد بأقل من كيلومتر واحد، وإنما مشينا من زمان إلى زمان، من بلاد إلى بلاد، حيث اختلفت اللغة واختلفت النغمات، وحركة الجسد، وكذلك محددات المسموح ومحددات الرغبة. بدأت إحدى الفتيات الطوال السمر تغنى بنغم فيه شجن وعتاب فى آن، كلمات سحرتنى وقد لا تسحر غيرى، بدأتها هكذا: «عبادى ياواد عبادى ياراكب ع الهجين.. حالف لأشرب من زيرك، لو كان المية طين.. وأتمايل يا سمارة، يا رباية السلاطين». وكانت المغنية تتمايل فى ثوب يكاد يسقط من جسمها لما فى القطن من انسيابية وثقل تحت وطأة جسدها ووطأة الجاذبية، ومع ذلك كان الثوب محافظاً ومحتشماً، أو هكذا خيل لى فى الحالتين. ثم صدحت فى سكون الليل البعيد: «تحت الشفة الرقيقة يحلى مضغ اللبان.. أتمايل وأنا أبوسك يا عويد الخيرزان.. يجرالك ما جرا لى ياللى تلوم على». غنتها وكأنها تغنى أغنية عادية رغم ما فيها من تلميح عال من الإيروتيكا المحلية. بدا وجهى للجميع خجولاً أو مدعياً عدم الملاحظة، فغمزنى من يجلس بجوارى، قائلاً: رأيك إيه، بتسمع دا عنديكم (هل تسمع مثل هذا عندكم؟)، قلت: لا. وحدثنى عن أنواع الشفاة ورقتها من الناقة إلى المرأة، وقال لى هذا ما نسميه ب«الدور الأخضر»، والدور ليس طابقا فى بناية، بل هو المقطع فى الأغنية أو فى الشعر، أى أن تقول «هات لنا دور» أى ألق علينا قصيدة. والدور الأخضر، هو القصيدة التى تدغدغ الحواس وتلهب المشاعر الحسية. ولهؤلاء القوم أنواع من التبرير القيمى لمثل هذه الأشعار، كما أن هذا النوع من الشعر يعد نوعاً من التصريح للسلوكيات، فالأغنية تبدو انعكاساً لمنظومتهم القيمية الحاكمة.. غنت الفتاة السمراء فارعة الطول بصوت شجى وواثق: «اتلم ولاد الهوا.. يشكوا لقاضى الغرام... عشق البنات ياقاضى حلال ولا حرام... يحرم على المتجوز أما العازب حلال». وبعد أن أصدرت المغنية هذا الحكم الغنائى صفق الشباب من غير المتزوجين وكأنهم حصلوا على تصريح مطلق. ودعت حبيبى الغالى والدمع فى عينى يجرالك ما جرالى ياللى تلوم على وهكذا ودعت المكان، وقليل من الدموع فى مقلتى. وهكذا كانت حياتى لأسبوع خارج التغطية، أو حسب رؤيتى، فى كامل التغطية.