ظلت إسرائيل حتى وقت قريب تستحوذ على تعاطف وتأييد الرأى العام العالمى، خاصة فى الولاياتالمتحدة والغرب، فضلاً عن التأييد المطلق للجاليات اليهودية، غير أن الأمر بدأ يتغير مع تكشف سياسات إسرائيل التوسعية والعدوانية ورفضها جهود وعروض السلام، خاصة بعد مجىء بنيامين نتنياهو وتحالفه اليمينى للسلطة، كما كان للحرب الإسرائيلية على لبنان وغزة وآثارها المدمرة على الشعب الفلسطينى تأثير على بدء تحول التيار بين الرأى العام العالمى، خاصة بعد تقرير القاضى جولدستون (يهودى الديانة)، الذى فضح فيه ممارسات إسرائيل القمعية فى غزة. وإذا كان الرأى العام الأمريكى والأوروبى مازال مؤيداً لوجود وأمن إسرائيل، إلا أنه بدأ يختلف مع سياساتها وممارساتها، ولعل ما يلفت النظر أن هذا التحول بدا فى الولاياتالمتحدة الحصن الحصين لإسرائيل وأصدقائها، وحيث كانت أصوات خافتة تبدأ بالارتفاع، فإن نتيجتها كانت إقصاءها وإقصاء أصحابها مثلما حدث مع رجال الكونجرس مثل السيناتور تشارلز بيرسى والنائب جون فيندلى، الذى اضطر تحت وقع تجربته إلى أن يكتب «من يجرؤ على الكلام؟»، غير أنه مؤخراً بدأت أصوات موضوعية وحريصة على المصالح الأمريكية ترتفع بين الأوساط الأكاديمية، ومن شخصيات مرموقة مثل الأستاذين ستيفن والت steven walt وجون مارشهيم john mearsheim من جامعتى هارفارد وشيكاغو، اللذين كتبا دراستهما الشهيرة «اللوبى اليهودى والسياسة الخارجية الأمريكية»، التى انتقدا فيها التأييد الأمريكى الذى لا يهتز لإسرائيل، والذى أدى إلى إشعال الرأى العام العربى والإسلامى، وعرض للخطر ليس فقط الأمن الأمريكى ولكن أيضاً بقية العالم، الأمر الذى لا مثيل له فى التاريخ الأمريكى. أما التطور الآخر بين الرأى العام الأمريكى فقد جاء من أوساط اليهود الأمريكيين، وتكوين منظمة مقابلة لمنظمة «الإيباك» ذات التأييد المطلق لإسرائيل وفى كل المواقف، فالمنظمة الجديدة «J street» تتبنى موقفاً متوازناً تجاه قضايا الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، حيث اعتبرت أن اتجاهاً جديداً فى السياسة الأمريكية سوف يخدم المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط وإنماء السلام الحقيقى، واعتبرت أن حل الدولتين هو أمر جوهرى بالنسبة لأمن إسرائيل فى المنطقة، كما تبنت المنظمة مواقف متوازنة تجاه عدد من القضايا فى المنطقة.. فحول إيران فإنها فى الوقت الذى تعتقد فيه أن إيران يجب ألا يُسمح لها بامتلاك أسلحة نووية فإنها تعارض بقوة استخدام القوة العسكرية فى هذا الوقت، سواء من جانب إسرائيل أو الولاياتالمتحدة. وحول الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى فإنها تعتبر أن التوصل إلى حل مستديم قائم على دولتين هو أمر جوهرى للمصالح الأمريكية ولبقاء إسرائيل. أما القدس فإنها تتصور أن تكون الأحياء اليهودية فى المدينة تحت السيادة الإسرائيلية، والأحياء الفلسطينية تحت السيادة الفلسطينية. وحول قضية المستوطنات فإنها تعتقد أنه على مدى 20 عاماً كانت عقبة فى طريق السلام، كما أنها استنفدت اقتصاد إسرائيل وقوتها العسكرية وديمقراطيتها، وتآكلت قدرتها على التمسك بالقيم وحكم القانون. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤخراً وبعد إعلان إسرائيل عن بناء 1600 مستوطنة كان تأييد أوباما بين اليهود الأمريكيين يتفوق على تأييد إسرائيل بنسبة 15٪. أما على المستوى الأوروبى، فقد وجدنا ما قررته الأوساط الأكاديمية البريطانية من مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين، وذلك بفعل السلوك الإسرائيلى فى غزة، ومؤخراً، حيث كان النفوذ شبه الطاغى للمنظمات اليهودية فى فرنسا، فقد أُصدر بيان من ثلاثة آلاف من الشخصيات اليهودية - الأوروبية أعطوا لأنفسهم اسم Jcall European Jewish Call for Reason عبروا فيه عن أنهم رغم التزامهم بوجود إسرائيل فإنهم يشعرون بالقلق حول مستقبل إسرائيل، وأنه رغم تفهمهم الأخطار الخارجية التى تتعرض لها إسرائيل فإنهم يعتقدون أن الخطر يكمن أيضاً فى الاحتلال، واستمرار بناء المستوطنات فى الضفة الغربية فى الأحياء الفلسطينية فى القدس، فهذه السياسات خاطئة أخلاقياً وسياسياً وتغذى عملية نزع الشرعية التى تواجهها إسرائيل الآن، وبناءً على هذا فإن بيان هذه الشخصيات قرر اتخاذ عمل يقوم على المبادئ التالية: إن سلام إسرائيل يعتمد على الوصول العاجل للسلام مع الشعب الفلسطينى على أساس حل الدولتين، وإلا فإن إسرائيل سوف تواجَه فى القريب بخيارات تتساوى فى كارثيتها، فإما أن تصبح دولة يكون فيها اليهود أقلية، أو أن تقيم نظاماً سيكون مشيناً لإسرائيل ويقود إلى عدم الاستقرار المدنى. إنه من الضرورى للاتحاد الأوروبى، مع الولاياتالمتحدة، الضغط على الجانبين لمساعدتهما فى الوصول إلى حل معقول وسريع للصراع، ويلقى النزاع مسؤولية خاصة على أوروبا فى هذه المنطقة من العالم. إن التأييد المنتظم لسياسة حكومة إسرائيل هو أمر خطر، ولا يخدم المصالح الحقيقية لدولة إسرائيل. وهكذا نلمس التحول فى الرأى العام الأمريكى والأوروبى، بل من أوساط يهودية عن سياسة التأييد المطلق لإسرائيل ومعانيه بالنسبة للإدارة الأمريكية، فهذا التحول إنما يقدم أرضاً صلبة لكى تتحرك فيها للمضى فى رؤيتها التى جاءت بها لتنفيذ حل الدولتين ولمعركتها مع نتنياهو وحكومته حول قضية المستوطنات وأوروبياً، كما أن قراءة بيان الشخصيات الأوروبية تذكّر أيضاً بقرارات وبيانات الاتحاد الأوروبى حول التمسك بحل دولتين وقضية المستوطنات، غير أن الفارق يبدو فى دعوة البيان إلى الضغط على إسرائيل لكى تتجاوب مع هذه المبادئ، الأمر الذى لم تمارسه أوروبا بشكل جاد وفعال حتى الآن، رغم ما يحّمله البيان على أوروبا من مسؤولية خاصة فى الصراع العربى - الإسرائيلى.. ونتوقع أن تعمل إسرائيل فى مواجهة هذا التطور على تعبئة الرأى العام اليهودى اليمينى ضد أصحاب هذا البيان فى أوروبا ومثلهم فى الولاياتالمتحدة.. وما سيقوّى أصحاب هذا التيار الجديد أن يجدوا عملاً عربياً متماسكاً وفاعلاً وراء مبادرته للسلام، وكذلك أن يجدوا شعباً فلسطينياً موحداً، وهو ما يمثل دعوة لأجنحته المختلفة لإنهاء الانقسامات وتبنى رؤية واستراتيجية للعمل من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.