«ضربة حظ».. هكذا تبدو البورصة من بعيد، على الأقل بالنسبة لشريحة واسعة لا تتعامل معها، وعلى الرغم من اعتماد المضاربة فى البورصة على قواعد علمية، ووجود شركات متخصصة فى هذا المجال فإن ما نقلته السينما تحديدا للجمهور يجعل البورصة أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر. هذه المخاطر لم تعد فقط خسارة بعض الأموال لكن أيضا خسارة الحياة والتوحد مع شاشة سوداء تجرى عليها الأرقام فى كل اتجاه. أيمن غبريال، محاسب شاب تجاوز التاسعة والعشرين من عمره، قرر أن ينضم إلى عالم سوق المال والبورصة كمستثمر صغير بعد أن فشل فى الحصول على فرصة عمل بعد تخرجه فى الجامعة. فى مرحلة «ما قبل البورصة» جرب أيمن حظه فى «تجارة كروت الشحن» ولم يوفق فانتقل منها إلى «سمسرة العقارات والسيارات» ولم يحالفه الحظ إلا قليلا. فى مرات نجاحه القليلة جمع أيمن 25 ألف جنيه، وقرر أن يغامر فى سوق المال بكل ما لديه: «أعمل إيه ما كانش فيه حل تانى قدامى بعد ما جربت كل شىء ممكن أشتغل فيه فى البلد دى». كان حلم أيمن يتلخص فى «ضربة حظ تخلينى فى السما»، كان يعتمد أيضا على خبرة قليلة فى سوق الأوراق المالية، وهى الخبرة النظرية التى تعلمها فى الجامعة، ولم يجربها قط. حرص أيمن على أن يتابع شاشة البورصة فى أحد مكاتب تداول الأوراق المالية لفترة زادت على شهرين، كان يجلس بهدوء ليراقب حركة المؤشر، ومعدلات نمو السوق، حتى قرر فى يوم أن يحسم أمره ويبدأ الاستثمار فى البورصة. «أول درس تعلمته فى سوق البورصة هو عدم الطمع، وأن المستثمر الذى يجد ربحا معقولا يبيع ولا ينتظر المزيد من المكاسب، لأن الطمع فى عالم البورصة قد يجعلك تعيش (أيام سودة)، وهى أيام وتجارب مريرة عشت بعضا منها بالفعل». يضيف أيمن: «سنوات عديدة مرت على وأنا أذهب للبورصة كل يوم من العاشرة صباحا وحتى الثانية والنصف ظهرا، وأنتظر قرارات معظمها عشوائى وغير مفهوم خاصة تلك التى تتعلق ببيع أو تجميد شركات أو انخفاض مفاجئ فى الأسعار، بسبب ترويج بعض الشائعات لصالح ال(ميكرز) الكبار، وبعد كل هذه السنوات علمت أن المتحكم الرئيسى فى السوق هو الحكومة التى تلعب دور الراعى لمصالح كبار المستثمرين». تغيرت حياة غبريال بالكامل، عادات جديدة تسربت إليه، ومفاهيم وأفكار وأحلام كلها تدور مع المؤشر: «أصبحت انطوائيا لا أحب الزيارات العائلية، وقلّ الخروج مع الأصدقاء وعزفت عن الزواج، خاصة بعد أن تكبدت خسائر كبيرة بعد الأزمة العالمية وخسائرى كانت أشبه بنزيف مستمر لأكثر من تسعة أشهر حتى بدأت أستعيد خسارتى مع انتعاشة البورصة فى فبراير من العام الحالى». محمد السيد على «55 عاما» كان ممثلا لشريحة أخرى من المستثمرين الصغار، ترك محمد أعماله كتاجر حر منذ 15 عاما وتفرغ لمتابعة المؤشر، خاصة بعد أن خسر 600 ألف جنيه وظل يبحث عن تعويض الخسارة: «خسرت أموالى بسبب قرارات خاطئة اتخذها مجلس إدارة البورصة وهى قرارت ضاعت بسببها أموال آلاف المستثمرين الصغار، نظرا لعدم وجود شفافية ونزاهة فى تداول الأخبار والمعلومات عن الشركات المطروحة فى السوق». فيما أشار أحد المستثمرين فى البورصة، رفض ذكر اسمه، أن المتعامل مع البورصة لابد أن يكون لديه قدر من الثقة فى الجهة التى يستثمر أمواله فيها، لكن البورصة المصرية عملت مع الأسف فى الآونة الأخيرة على تعزيز انعدام الثقة بينها وبين المستثمرين، حيث اتخذت الإدارة عدة قرارات بغلق 29 شركة وتجميد استثمارات العملاء بحجة عدم امتلاكهم خطة مستقبلية، وكشفت الإدارة أنها كانت تراقب أعمال هذه الشركات لعدة أشهر تنبه المستثمرين وتسببت بذلك فى ضياع أموال المستثمرين الصغار بشكل رئيسى، فضلا عن فتح باب البيع والشراء فى يوم واحد ولصالح المضاربين» أما (م.م) مهندس معمارى، رفض نشر اسمه فقال: «منذ أكثر من 15 عاما وأنا أستثمر أموالى فى قطاع مواد البناء، تحملت خلالها المكسب والخسارة وطوال هذه الفترة كان الوضع مستقراً بشكل كبير فى البورصة حيث كان 80% من المستثمرين يفهمون ويعرفون جيدا كيفية استثمار البورصة بالمقارنة بال20% الذين لا يعرفون شيئا عن هذا المجال، لذلك كان المتحكم الرئيسى فى السوق هو الأكثر دراية، أما الآن ومنذ نحو عامين انقلب الوضع وانتشر مروجو الشائعات لصالح كبار المستثمرين». يروى (م.م) أغرب المواقف التى تعرض لها فى البورصة قائلاً: «عام 1998 وجدت شخصا يجلس بجوارى فى البورصة ويبكى، وقتها كان التداول فى البورصة وليس فى مكاتب تداول الأوراق المالية.. أخذ يطلب منى النصيحة حيث خسر كل ما يملك فأشفقت عليه، وتجاذبنا أطراف الحديث لأعرف أنه كان يعمل فى إحدى الشركات الكبرى فى القاهرة ثم ساوى معاشه وحصل على مكافأة نهاية الخدمة فوضعها ومعها تحويشة العمر فى صندوق استثمار بأحد البنوك وطلب منهم أن يشتروا له أسهماً بنظام الاكتتاب فى إحدى الشركات وقد كان، وأعطوه صك الملكية وسافر بعد ذلك إلى الكويت للالتحاق بوظيفة هناك لكنه لم يوفق فيها فخسر وظيفته الأساسية فى مصر وفى الكويت ثم عاد إلى بلده لا يمتلك سوى صك الاكتتاب فى الشركات والذى كان لا يتعدى سعره 200 ألف جنيه، وبمجرد وصوله إلى مصر علم أن الأسهم انخفضت بشكل كبير فذهب إلى البورصة ليدرك أنه خسر كل شىء». يتابع المهندس: «طلبت منه أن يرينى الأوراق التى يملكها وطابقت الأوراق بأسعار الشركة لأجدها مرتفعة بأكثر من مليون جنيه، وهنا نصحته بأن يعود مرة أخرى إلى الصندوق الاستثمارى، لبيع تلك السندات، ووضع أموالها فى أحد البنوك». نصيحة «م.م» العفوية كانت عكس ما يفعله فى حالة الخسارة: «بصراحة لما باخسر باخد أجازة من الشغل وأتفرغ للبورصة عشان أعوض، ساعات باخد أجازات لمدة 6 شهور بدون مرتب عشان أراقب الأسعار». ولم يتوقع (ص.أ) أستاذ الجراحة العامة أنه سيمر بيوم يترك فيه مهنته التى عشقها من أجل البورصة: «الطب كان حياتى كلها، اشتغلت أكثر من 15 سنة فيه وقلت أجرب حظى فى البورصة». فى تجربته الأولى خسر الطبيب المغامر أمواله، وأصيب بحالة من العصبية منعته من متابعة المرضى، فقرر إغلاق عيادته والبحث عن وسيلة «للانتقام من اللى خدوا فلوسى». أقنع الطبيب زوجته بالاستثمار فى البورصة بأموالها التى ورثتها عن والدها، وبالفعل وافقت الزوجة، ليتفرغ الطبيب لفكرة تعويض الخسارة: «يادوب عرفت أرجع 25% من خسارتى الأولى.. لكن لسه عندى أمل».