ذهب مريض إلى الطبيب، يسأله علاجاً لأوجاعه، وقد راح الطبيب يلف ويدور حول المريض، وراح يضع السماعات على قلبه، ويضع يده على باقى جسده، وينظر هنا، ثم يتطلع هناك، وأخيراً تناول ورقة، وكتب عليها الدواء، وطلب من المريض أن يتجرعه بانتظام، وطمأنه بأن مرضه ليس خطيراً، وأنه سوف يتعافى قريباً جداً بإذن الله، وأنه، كمريض، ليس عليه إلا أن يكون منتظماً فى تعاطى الدواء، أما الباقى فهو على الله سبحانه وتعالى، ثم على الطبيب! وكان من الطبيعى أن يصدق الرجل، الطبيب، وأن يطاوعه فى مسألة الانتظام فى تناول الدواء، لأنه يريد أن يشفى فى النهاية، فهذا هو الغرض، ولا هدف غيره.. ولكن المريض قد لاحظ، بعد فترة، أن الدواء الذى يتعاطاه، بانتظام، قد أدى إلى ظهور أعراض عليه، لا علاقة لها، كأعراض، بالمرض الذى كان قد صارحه به الطبيب، كأن يكون شعر رأسه - مثلاً - قد بدأ يتساقط قليلاً، أو أن لون جلده بدأ يتغير، أو.. أو.. إلى آخره! وكان رد الفعل التلقائى عنده، أنه قرر أن يذهب إلى طبيب آخر، لأن الطبيب الأول فى نظره مغفل، وحمار، ولا يفهم فى الطب، مع أنه طبيب كبير، ومشهور، وصاحب سمعة ممتازة، لكنه فى نظر مريضه، لا علاقة له بالطب، وإلا ما كان قد وصف له علاجاً لا صلة له بالمرض الحقيقى الذى يعانيه! وكانت القراءة الصحيحة للقصة على بعضها، أن الطبيب لم يكن حماراً، ولا مغفلاً، ولا شىء من هذا أبداً، وإنما هو طبيب ماهر، وبارع، وشاطر، وكل ما فى الأمر أنه أخفى عن المريض حقيقة مرضه، وأعطاه فى الوقت نفسه، دواءه الحقيقى، ولم يكن المريض عنده أى مانع فى أن يتعاطى الدواء لفترة أطول، وأن يتردد على الطبيب ذاته، عشرين مرة، بشرط أن يصارحه، وأن يقول له الحقيقة كاملة، دون رتوش! هذا، بالضبط، هو ما يحدث الآن فى مصر، بين المواطن من ناحية، والحكومة من ناحية أخرى.. فكل فترة يفاجأ المواطنون بأن الحكومة تصف لهم دواء لمرض لا يعرفونه، ولا تريد أن تصارحهم به، وقد يأتى الدواء مرة فى صورة قانون ضرائب جديد للدخل، أو ضرائب جديدة للأرباح التجارية، أو حتى ضرائب عقارية، أو غيرها.. وفى كل مرة، تلجأ فيها الحكومة إلى إعطاء مواطنيها دواء من هذا النوع، أو من غيره، يشعر المواطن، فى قرارة نفسه، بأنه مرغم على الحصول على دواء، لمرض لا يعرفه على وجه التحديد، ولا يعرف حقيقة ملامحه، أو معالمه، على أصلها، دون تزيين أو تجميل.. وهو، شأن المريض إياه، يتهم الحكومة فى كل مرة، بأنها لا تفهم، وبأنها لا علاقة لها بالإدارة، ولا بالسياسة، بدليل أن أعراض الدواء الذى يحصل عليه، كل صباح، ليست متطابقة مع اسم المرض الذى يقال له، على لسان حكومته، إنه يعانى منه، ولذلك، فهو تأتى عليه لحظة، يرفض فيها الدواء، ويتهم الطبيب، الذى هو الحكومة، بأنه لا طبيب، ولا كانت له علاقة بالطب فى يوم من الأيام! وحين نتأمل ما حولنا، نكتشف أن حكومة اليونان، على سبيل المثال، حين صارحت مواطنيها، بحقيقة مرضهم، وكانت جادة فى علاجه، فإنهم من خلال استفتاء كامل جرى هناك، وافقوها فى أغلبيتهم على إجراءات تقشف واتخذتها، ولم يمانعوها، وتجرعوا الدواء، ولايزالون، لأنهم عرفوا أنه لا بديل آخر أمامهم، وأن حكومتهم تعرف المشكلة، ومعها الحل! وإذا كان الطبيب إياه، فى حاجة إلى درس فى الطب، فحكومتنا فى حاجة إلى درس فى السياسة والمصارحة ثم الجدية، ويمكن أن تحصل عليه مجاناً، من اليونان!!