تظهر تطورات المشهد السياسى فى قرغيزستان – البلد الأفقر فى آسيا الوسطى – أن الموقف يحمل بعدين على قدر كبير من الأهمية: أحدهما داخلى يكمن فى أسلوب الانقلابات ومنهج الثورات الشعبية وأشهرها «ثورة السوسن» التى أتت بالرئيس المخلوع كرمان باكييف إلى الحكم عام 2005، قبل الإطاحة به منذ أيام، أما البعد الآخر فيتعلق بحسابات خارجية تتداخل فيها مصالح وتوازنات الدول الكبرى وأهدافها فى هذه المنطقة الاستراتيجية سياسياً واقتصادياً وصولاً إلى انعكاس هذه الجزئية على الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدةوروسيا. وعلى الصعيد الداخلى، بدأت الحكومة الانتقالية المؤقتة بقيادة زعيمة المعارضة القرغيزية روزا أوتونباييفا التحرك سريعاً لكسب ثقة الشارع فى بشكيك، وأعلنت أنها تعتزم تأميم الشركات الحكومية الكبرى التى خصخصتها عائلة الرئيس المخلوع باكييف، مؤكدة أنها تجهز حالياً مجموعة من القرارات لإعادة الشركات الاستراتيجية التى تمت خصخصتها بأسعار رمزية إلى ملكية الدولة. وأوضحت أن إحدى الخطوات الأولى لحكومتها ستكون تأميم شركة (APITI) للإبداع التكنولوجى والاستثمار، التى يترأسها مكسيم باكييف نجل الرئيس المخلوع، والتى كانت تسيطر على الاقتصاد القرغيزى. كما تدرس الحكومة قراراً برفع الرسوم المفروضة على قطاع الطاقة الذى أقره باكييف وسط الأزمة والذى يمثل أحد أسباب الاحتجاجات الشعبية، فيما أعلن نائب رئيس الوزراء تامر سارييف أن الحكومة الجديدة ستعين لمدة نصف عام إدارة مؤقتة فى أكبر 5 بنوك فى البلاد لتفادى هروب رؤوس الأموال. وخرجت خطوات الحكومة المؤقتة وسط حالة من الهدوء سادت شوارع العاصمة بشكيك، أمس، بعد أسبوع من المظاهرات والاشتباكات الدموية، حيث تتعاون قوات عسكرية وعناصر من وزارة الداخلية وميليشيات مدنية جميعا لإحلال الهدوء فى شوارع العاصمة، إذ جرى تفريق من تبقى من قطاع الطرق وجماعات الشباب المتطرف باستخدام القنابل المسيلة للدموع والطلقات التحذيرية، لدرجة أن وسائل إعلام محلية أكدت أن وزير الداخلية فى الحكومة الانتقالية أصدر أوامر بإطلاق النار على الأشخاص المتورطين فى أعمال السلب والنهب، تأكيداً لفكرة التطهير التى ترفع المعارضة لواءها وتحاول عبرها رفع رصيدها لدى الشعب. ورغم تفوق المعارضة فى إحكام قبضتها على سلطات البلاد، عرض الرئيس المخلوع باكييف إجراء محادثات مع الانقلابيين، إلا أنه رفض الاعتراف بالهزيمة بما يحمل دلالات على أن الوضع فى قرغيزستان لايزال فوق صفيح ساخن، والطريق مفتوح على احتمالات كثيرة قد تقلب المشهد برمته رأساً على عقب فى ظل منطق الثورة الذى يحكم التركيبة السياسية فى هذا البلد. وعن تداعيات المشهد خارجياً، شعرت روسيا بمزيد من الارتياح لانتقال السلطة إلى يد المعارضة فى قرغيزستان.. وجاءت المكالمة الهاتفية بين رئيسة الحكومة الانتقالية أوتونباييفا ورئيس الوزراء الروسى فلاديمير بوتين عقب الانقلاب مباشرة لتدل على «مباركة موسكو» لما حدث، خصوصاً أن المكالمة كان هدفها إبلاغ بوتين حكومة «الثقة الشعبية» بشكل كامل على الوضع فى قرغيزستان بما فى ذلك الجيش وقوى الأمن الداخلى وجرى الحديث عن تقديم مساعدات إنسانية للبلاد. وعلقت مجلة «تايم» الأمريكية على الأوضاع بقولها: «بالرغم من نفى بوتين أى تورط من جانب بلاده فى الغليان الذى تشهده قرغيزستان، فإن واقع الأمر يؤكد أن ثورة السوسن الجديدة ستجنى موسكو منها الكثير.. بينما ستخسر واشنطن الكثير». وأعادت المجلة الأمريكية إلى الأذهان حقيقة وضع قرغيزستان عدة أعوام باعتبارها مكاناً لصراع عنيف بين أمريكا وروسيا، لتتحول تلك الدولة الفقيرة والمغلقة إلى مركز لاستراتيجية «الجيوبوليتيكا»، ففى الوقت الذى يدفع فيه الأمريكيون إلى الحفاظ على قاعدتهم العسكرية بشمال قرغيزستان، تمارس روسيا على الجانب الآخر ضغوطاً لطرد الجيش الأمريكى بعيداً عن البلد الذى مازالت ترى أنه مجال نفوذ بأراضيها منذ الاتحاد السوفيتى السابق.. وتزداد الشكوك حول الدور الروسى فى الانقلاب الأخير فور تصريحات عمر بك تيكباييف المسؤول عن الشؤون الدستورية فى الحكومة المؤقتة بأن هناك احتمالاً كبيراً لخفض مدة إيجار الولاياتالمتحدة لقاعدة «ماناس» الجوية التى تخدم خطوط الإمداد العسكرية فى أفغانستان.