عندما يأتي الليل .. نفكر في وقت جميل للراحة والتخلص من متاعب الصباح لطالما تغنى بجماله الشعراء، ولكن يبدو أن هؤلاء الشعراء لم يعلموا أن المساء سيتحول فى شوارع القاهرة إلى كابوس يؤرق (الحاجة فتحية) التى اضطرتها الظروف إلى المبيت فى الشارع حاملة معها كل ما تملكه فى الدنيا (صندوق فيه مناديل). فعندما ينتصف الليل تبدأ بترقب الشارع حتى يخلو من المارة لكى تبحث عن المكان الذى ستنام فيه ليلتها، والذى عادة مايكون بجانب أحد المحال المغلقة .. أو يغلب عليها النوم فلا تدري بنفسها إلا في صباح اليوم الثاني على أصوات تنبيهات السيارات في الشوارع، فهي بالطبع لا تنام بالمعنى المعروف للنوم بالهدوء والذهاب فى عالم آخر، وإنما يجب أن تظل متيقظة قليلا، أما عن جيرانها فهم مجموعة من الكلاب الضالة، قد يؤذونها ولكن الكلاب كثيرا ما يكونوا ودودين أكثر من البشر، حيث تنام الكلاب أحيانا بجوارها دون مشاكل. إذا كنت من المترجلين في وسط المدينة أو في مدينة نصر بالأخص نحو سيتي ستارز أو شارع عباس العقاد أو مناطق أخرى مثل المهندسين أو مصر الجديدة فكل هذه المناطق من الواجب عليها أن تشعرك بالراحة التي يعيشها الشعب المصري، وأن كل هؤلاء الناس الذين تراهم لديهم مال وفير ومنزل يؤولون إليه عند شعورهم بالحاجة إلى النوم بعد تشبعهم من الحاجة إلى المتعة والرفاهية!! أما إذا أخذتك قدميك الى مناطق السيدة والحسين والعتبة وحارات وسط المدينة وباب الشعرية ورمسيس سيتكرر أمامك منظر الناس الذين يتفرشون الشارع كثيرا أمامك كلما مشيت. الملابس المهلهلة والأقدام المشققة من كثرة البحث عن مكان للنوم هي مناظر تتكرر بصورة يومية، وبالطبع هذا ليس تسولا منهم ولكن هذه المناظر لأنهم بلا مأوى، أو لأنهم هاربون من مشاكلهم التي لا تنتهي، وتتنوع هذه المشاكل بين عدم وجود المال أو المشاكل الزوجية أو مشاكل أطفال الشوارع التي هي سبب أساسي لوجود معظمهم في هذه الشوارع، ولعل بعضهم لا يستطيع العيش في المنزل بعدما باعت أمه أحد أخوته لتتمكن من الإنفاق على البقية، ويكون عمل معظم هؤلاء الأطفال في بيع المناديل في الإشارات وعلى المقاهي، وغالبا ما يتحكم بهم أحد البلطجية ويقوم بضربهم وإجبارهم على دفع مبالغ معينة نظير حمايتهم في الشارع، لأن للشارع أيضا في مصر قوانين تنظمه! فإذا ذهبت لتتحدث إليهم ستجد أن الحياة مغايرة تماما لما نعيشه نحن، أو لما تراه وسط سهرات وسط البلد، لأن الحياة لديهم تتمثل في ترقبهم للناس وانتظارهم حتى ينتهي هؤلاء من سهراتهم كي يناموا لبضعة ساعات قليلة، وحتى إذا دققت في طريقة نومهم ستجدهم نائمين كالذئاب (مفتح عين ومقفل عين)، لأنهم لا يعلمون ما يمكن أن يتعرضوا له أثناء نومهم .. هؤلاء الناس محرومون حتى من أبسط الجمل التي لا تجدها إلا في قاموس الفقراء مثل ما قاله أحدهم (نفسي أقفل عليا بابي وأبقى كافي خيري شري) .. ما أبسطه من حلم إنه يريد فقط بابا يتستر خلفه بابا يمنعه من أن ينام بجوار كلب، وأن تلتف مجموعة من الكلاب حوله وهو نائم، هو يريد أن يكون له جارا يسأل عليه، فلو مات في الشارع لن يشعر به أحد ولن يتحمل أحد مسؤلية دفنه وإكرامه. والغريب أنهم يتمتعون بعزة نفس غير عادية فكلما حاولت التسلل إلى أحدهم في الأسئلة لتدخل في مناقشة مشاكلهم واحتياجاتهم تكون ردودهم هي محل إعجابك، فلا يعرفون إلا (الحمد لله، ومفيش حد يابني معندوش مشاكل، وأدينا عايشين كام يوم في الدنيا مش طالبين إلا الستر) وبسؤال أحد الأشخاص. المحرر : ممكن أتكلم معاك شوية؟ - إتفضل يابني إحنا ورانا إيه . المحرر : عم الحاج أنت ليه قاعد في الشارع دلوقتي؟ - (الحاج وهو يفترش الشارع بجواره أناس مثله نائمون) : قاعد في الهوا يابني هربان من مشاكل البيت . المحرر : ويا ترى كل الناس اللي جنبك دي في قاعدين في الهوا زيك؟ - كل واحد يابني عنده مشاكله الخاصة ربنا يعلم بكل واحد والمشاكل دي مش غريبة يعني ما كل الناس عارفة كل المشاكل الحمد لله يابني. وهنا انتهى الحديث وكان هناك شبه إجماع أن الشرطة تعلم ما كل ما يحدث وأنهم لا يتعرضون إليهم إطلاقا ويتركونهم يفترشون الشوارع ولا أحد يسألهم عن مشاكلهم أما عن سؤال معظمهم في رمضان كيف يعيشون؟ كان الرد : رمضان هو الموسم الذي يكون فيه الحصاد .. رمضان هو الشهر الذي يتذكر فيه الناس الرحمة ولا ينظرون إليهم نظرة المتسولين ويتذكرون أنهم بشر مثلهم مثل من يفترشون الشوارع.