اتصل بى أحد أصدقاء العمر هو الدكتور يسرى أبوشادى، كبير مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقاً، ظهر يوم 27/7، وكان يتحدث من مطار القاهرة فى طريقه إلى مقر إقامته بفيينا التى قضى فيها معظم عمره العملى يعمل بالوكالة التى نجحت فى استقطابه للعمل بها كواحد من العلماء النوابغ فى مجال المفاعلات النووية.. أتانى صوته غاضباً ومُتعجباً وهو يقول: هل قرأت ما نُشر اليوم فى صحيفة الأهرام المسائى؟ فلما أجبت بالنفى وطلبت منه أن يقول لى ما أثاره وأغضبه، رد بقوله: اشتر الصحيفة واقرأ ما فيها لتتأكد من أنه لا فائدة فى هذا البلد وتوفر على نفسك ما تكتبه، فقد أخذت هذه الصحيفة معى حديثا نُشر بالأمس، حذرت فيه من أزمة طاحنة قريبة فى الطاقة الكهربائية المطلوبة لمصر، وضرورة الإسراع فى حسم ملف موقع الضبعة والبدء فوراً فى الإجراءات العملية لإنشاء المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، حيث إن الاعتماد على البترول والغاز فى تشغيل محطات توليد الكهرباء هو سياسة قصيرة النظر، ولن يكفى المخزون منهما إلا حوالى عشرين سنة قادمة فقط، والغريب أن تنشر الصحيفة فى اليوم التالى مباشرة ما أدعوك إلى قراءته، وودعنى وذهب إلى ركوب الطائرة.. اشتريت الصحيفة فوجدت عنواناً بارزاً «البترول يرد على الدكتور يسرى أبوشادى»، وجاء بالخبر أن المهندس محمد نظيم وكيل أول وزارة البترول قد نفى ماذهب إليه الدكتور أبوشادى، وأن احتياطى مصر من الغاز يكفى لأربعين عاماً قادمة، وأن هناك احتياطيًا، هائلاً باعتبار ما يتوقعه من اكتشافات جديدة فى المستقبل. والخلاصة أن كل شىء تمام ولا داعى للانزعاج على مستقبل الطاقة فى مصر، وصحب الخبر صورة لوزير البترول، لم تكد تمر أيام قليلة على هذا الموضوع حتى انفجرت أزمة الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائى فى شتى أنحاء البلاد، حتى إن الإظلام ساد محافظات بكاملها أدى إلى خسائر فادحة، وضرر بالغ بالمواطنين.. وانفجر معها حقيقة خلاف حاد وخطير بين وزارتى الكهرباء والبترول منذ مدة طويلة، مما دعا الرئيس إلى التدخل، واضطر وزير الكهرباء المحترم، بعد أن وُجهت إليه أصابع الاتهام بأنه المسؤول عن إظلام مصر، إلى التصريح بحقائق كانت تخفيها آلة إعلام جبارة تعمل فى خدمة السيد وزير البترول.. وبدأت الحقائق تظهر على ألسنة المسؤولين فى قطاع الكهرباء، فقرأنا تصريحات الدكتور محمد عوض رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر، التى جاء فيها أنه اُضطر إلى الإعلان عن مشكلة نقص إمدادات الغاز لمحطات الكهرباء، بعد أن تكررت عدة مرات حتى وصلت إلى ذروتها يوم 17/8 عندما فقدنا 1600 ميجاوات بعد تخفيض أحمال المحطات، بسبب ضعف الغاز، مما أدى إلى انقطاعات للتيار الكهربائى فى ربوع البلاد.. وكشف عن مصيبة أخرى هى أن المازوت المُورد إلى محطات الكهرباء لتعويض نقص الغاز هو أيضا غير مُطابق للمواصفات، وأثر على عمر المواسير ومكونات الغلايات فى عدة محطات لتوليد الكهرباء، وكلف ذلك وزارة الكهرباء مئات الملايين! الطريف فى هذا الموضوع المأساوى أن د.محمد عوض وهو يقوم بواجبه فى عرض هذه الحقائق على الرأى العام، اتضح أنه يعرف حقيقة الأوضاع ومراكز القوى فى القطاع الذى يتحدث عنه وكيف تُدار الأمور فى هذا البلد المنكوب، فلم يفته أن يصرح بأن هدفه هو بيان الأسباب الحقيقية وراء انقطاعات الكهرباء وأنه– ولاحظ هذه العبارة جيداً– لم يخش على منصبه، لأنه يؤمن بمبدأ توقع مالا تتوقع! وحكى أنه عندما قابل وزير البترول بعد هذه التصريحات ضحك فى وجهه وقال له: «عايز صورتك تطلع فى الصحف يا د.عوض»! أدركت بعد قراءة هذه التصريحات لماذا انبرى السيد وكيل أول وزارة البترول يستنكر تصريحات العالم الوطنى المحترم د.أبوشادى، فالحفاظ على المنصب أولى من قول الحق فى هذا الزمن الأغبر.. وأدركت كذلك لماذا كانت صورة وزيره هى التى تعلو تصريحاته وليست صورته هو، فهو يعلم تماما ما تمثله الصور فى الصحف بالنسبة للسيد الوزير! كذلك قرأت تصريحات أخرى لا تقل أهمية على لسان المهندس ماهر عزيز مسؤول الشؤون البيئية بوزارة الكهرباء أن وزارته لا تملك الوقود المطلوب للتشغيل السليم والأمثل لمحطات الكهرباء، لأن توزيع هذا الوقود يأتى بقرار سيادى من رأس الدولة بنص ما نُشر بصحيفة الدستور يوم 24/8! إن هذا الموقف برُمته يفتح الباب لعدة تساؤلات مشروعة، الأول: هل أصبحت وزارة البترول من الوزارات السيادية التى تأتى التعليمات إليها، وما دور وزيرها إلا تنفيذها.. افتح الغاز بوفرة وضغط عال إلى هذه الجهة، واقتر واقتصد وقلل الضغط إلى الجهة الأخرى مثلا؟! السؤال الثانى: من المؤكد أن السيد وكيل أول وزارة البترول الذى انبرى فى اليوم التالى مباشرة يستنكر تصريحات د. أبوشادى قد فعل ذلك دون توجيه من أحد، آملا أن يكون ذلك فى صالح استمراره وتثبيته فى موقعه بغض النظر عن الحقيقة أو المصلحة العليا للشعب الذى يدفع راتبه وراتب وزيره، ولكن ألا يدرك هؤلاء المسؤولون الذين لا هم لهم إلا الإشادة والتطبيل لوزرائهم أنه يوم أن تقع الواقعة وتظهر الحقيقة ناصعة أمام الرأى العام فإن أول من سيُضحى بهم هم هؤلاء المُتشبثون بمقاعدهم، الساكتون عن قول الحق كالشياطين الخُرس.. ولهم فى مهزلة سرقة لوحة زهرة الخشخاش وموقعة «حسنى– شعلان» المثل الحى؟ السؤال الثالث: لماذا لم تثر وزارة الكهرباء سواء وزيرها أو كبار مسؤوليها هذه القضية فى مجلسى الشعب والشورى بواسطة أحد النواب، وظلت تتحمل الخسائر والاتهامات لسنوات؟ هل لمعرفتهم بما هو معروف من سيطرة وزير البترول على أعضاء المجلسين إلى حد أننى لا أتذكر أنه قد وُجه إليه سؤال أو استجواب، وكان نصيبه دوما المدح والإشادة بما يقدمه لهم من خدمات وعلى رأسها آلاف الوظائف لأقاربهم ومعارفهم، وبما يعرفونه أيضا عن شبكة المصالح بينه وبين مُختلف جهات الأمن والرقابة فى هذا البلد المنهوب، ومايعرفونه من الآلة الإعلامية الجُهنمية التى تعمل فى خدمته والمُنتشرة فى جميع الصحف والمجلات، فضلا عن المطبوعات الفاخرة التى تصدرها وزارته، يتصدر العمل فيها أسماء كبيرة فى مجال الإعلام، ولا يعرف أحد على وجه اليقين كم هى الميزانيات المُخصصة لها فى زمن التعتيم والفساد؟! الشعب المصرى المغلوب على أمره.. سيستمر الظلام والإظلام طالما بقى أمثال هؤلاء المسؤولين جاثمين على صدوركم، وإلى أن يأتى يوم تسطع فيه شمس الحرية والعدالة والديمقراطية فى سماء هذا الوطن الغالى.