دائما ما يتهمون الإسلام بالعنف، وهو دين اللطف والرحمة والإنسانية. يقولون «انتشر بالسيف، انتصر بالعنف، ابتدأ بالاعتداء»!. هل كان محمد، صلى الله عليه وسلم، يملك القوة حين وقف فردا فى مواجهة قريش بأسرها؟ هل كان أصحابه المستضعفون جناة أم مجنياً عليهم؟ وهذا الكتاب البديع «نظرية الحرب فى الإسلام» للعلامة الفقيه الإمام محمد أبوزهرة يحدد علامات على الطريق، ويوضح القواعد الدينية المقررة، ويفرّق بجلاء بين مبادئ الدين وتصرفات الأتباع، ولا يدافع بالباطل عن أخطاء ارتكبت فى التاريخ الإسلامى، مقررا بوضوح أنه ليس كل ما يفعله ملوك الإسلام إسلاميا، فمنهم من كان يتسربل باسم الإسلام لبسط سلطانه، ومنهم من كان ينتمى إلى شعوب اشتهرت بالغلظة مثل التتار، فلما حاربوا فى ظل الإسلام غلبت عليهم طبائعهم. المهم أن يكون المبدأ واضحاً: إذا كان بعض قواد المسلمين فى الزمن الغابر قد انحرفوا عن تعاليمه فأعمالهم ليست حاكمة على القواعد الدينية المقررة بل خاضعة له، ولا يُخرج القانون عن كونه فاضلاً مخالفته فى قليل أو كثير. ............. يقول الإمام أبو زهرة إن السلام هو أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بنص القرآن «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله»، ونبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) هو رسول الرحمة «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، ووقائع السيرة النبوية تؤكد أنه لم يرفع سيفا على مخالفيه إلا بعد أن وقع منهم الاعتداء، فمكث بين كفار قريش ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى التوحيد ونبذ الأوثان، ما ترك باباً من أبواب الدعوة بالموعظة الحسنة إلا دخله «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، وما اتجه الرسول إلى حربهم إلا بعد التعذيب والمصادرة «أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله»، وكان القتال مقصورا على قريش لا يعدوهم حتى تضافر العرب جميعهم على المسلمين فى غزوة الأحزاب فكان لا بد من قتالهم جميعاً «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة». ولم يستبح دماء اليهود، ولم يفكر فى نقض حلفهم حتى حدثت خيانتهم فى غزوة الأحزاب بما يهدد وجود المسلمين من الأساس. وبهذا الاستقراء التاريخى نجد النبى ما حارب أحدا لم يعتد عليه أو يدبر الأمر ضده أو لم يتآمر على الإسلام مع أعدائه، وقرر أنه من سالم المسلمين لا يحل لهم أن يقاتلوه. ..................... والثابت أن حرية الاعتقاد فى الإسلام مكفولة، فالحرب لا تجوز لفرض الإسلام ديناً على المخالفين، والقتل للكفر ليس بجائز فى شريعة الإسلام «لا إكراه فى الدين، قد تبين الرشد من الغى»، هذه من المبادئ غير القابلة للنسخ، ولقد منع الرسول رجلا يريد أن يُكْره ابنه على الإسلام. فإذا وقع الاعتداء فالصبر خير، والقرآن لم يأمر بالقتال عند أول اعتداء: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين». ووصية الرسول لمعاذ تعبر عن سماحة مذهلة: 1- لا تقاتلوهم حتى تدعوهم. 2 - فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم. 3 - فإن بدأوكم فلا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا. 4 - ثم أروهم ذلك القتيل (علّ قلوبهم تلين)، وقولوا لهم: «هل إلى خير من هذا سبيل؟». وسبب السماحة يأتى فى نهاية الوصية: «فلأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت». ..................... فإذا كانت الحرب فلا بد من الإعلان قبل الهجوم. من عجائب التاريخ الإسلامى أن عمر بن عبدالعزيز أمر جيش المسلمين بالانسحاب من سمرقند بعد أن استولوا عليها لأنهم لم يأذنوهم بالحرب، ويخيروهم بين الصلح والإسلام والقتال. ................... ومن اللطائف النبوية دعاء الرسول قبيل ابتداء القتال «اللهم إنا عبادك، وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك»، ومن هذا الدعاء السامى ينبعث إشراق النبوة، فهو لم يعتبر الأعداء أرجاسا ولكنهم عباد الله تعالى، وفى ذلك شعور بالأخوة الإنسانية، وإن فرقتها الحروب. فإذا وقع القتال والتحمت الجيوش، فإن ضوابط القتال أهمها أن الحرب للمقاتلين لا للشعوب. من جملة الضوابط: منع قتل الشيوخ والنساء والأطفال والعمال ورجال الدين منعا مطلقا. منع التخريب والهدم والإتلاف لأن الأساس فى القتال هو رد الاعتداء وليس الانتقام. منع التمثيل بالجثث منعا مطلقا. إن قعدت قوة المجروح عن المقاومة لا يسوغ قتله بل يبقى ويؤسر لأن القصد من القتال هو منع الاعتداء. المعاملة الكريمة للأسرى، وبالغ الإسلام فى إكرام الأسير حتى اعتبره القرآن من أكرم البر، فكانوا يكرمونه ولا يجوعونه، وإذا انتهك جيش الأعداء الأعراض فإن جيش المسلمين لا يباح له المثل، وإذا عذبوا الجرحى لا يباح للمسلمين المثل. ومن عجب العجاب أن الإسلام يحفظ لرعايا الدولة المقاتلة الموجودين فى بلاد المسلمين أمنهم وأموالهم ما داموا دخلوها مستأمنين، فإذا ماتوا انتقلت الأموال إلى ورثتهم فى الدولة المعادية. والأعجب أنه لا يستحب كثرة القتل بين الأعداء، يروى أن عمر بن الخطاب عزل خالداً بن الوليد لكثرة ما قتل من الأعداء!، وقال فى ذلك: «إن فى سيفه لرهقا» أى كثرة قتل. وامتدح قتال عمرو بن العاص فى مصر: «تعجبنى حرب بن العاص، إنها حرب رفيقة سهلة». وكان ذلك تأسياً بسنة النبى الذى يسير على سياسة التأليف حتى فى القتال، قال لجنوده: « تألّفوا الناس وتأنّوا بهم، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فإن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم». هى إذن حرب رفيقة تتسم بالتأليف والمحافظة على (الأعداء!)، وأحبُّ إلى محمد، صلى الله عليه وسلم، أن يأتوه بهم سالمين قد عمر الإيمان قلوبهم. فإذا انتهى القتال لم تبق إلا المعاملة بالعدل، وقد أمر الإسلام بالعدل مع الأعداء كالعدل مع الأولياء «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا»، وحينما دخل النبى مكة صاح أحد قواده: اليوم يوم الملحمة، اليوم أذلّ الله قريشا، فعزله النبى وقال: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله قريشا. وجمعهم الرسول وقال لهم- وهم الذين قاتلوه وآذوه: ما تظنون أنى فاعل بكم؟، فقالوا فى ذلة المغلوب: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم أقول لكم ما قاله أخى يوسف «لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم. اذهبوا فأنتم الطلقاء». ..................... هذا هو الدين الذى يصفونه بالقسوة وهو دين الرحمة أنزله رب رحيم إلى رسول كريم فى شهر كريم، فأنّى تعرف القسوة طريقا للنفاذ إليه! [email protected]