هل استوقفكم طيلة الأيام القليلة والحزينة الماضية تعبير جديد جرى استخدامه وتكراره على كل المستويات الإعلامية والجماهيرية يخص شعب بورسعيد؟ ولست أعرف متى أصبح أهل بورسعيد وسكانها هم شعب بورسعيد.. وهى المرة الأولى التى أعرف فيها أو أقرأ وأسمع أن المصريين ليسوا شعبا واحدا.. إنما هم شعوب وقبائل التقت وتعارفت واتفقت على اقتسام وطن واحد يسكنونه، بشرط أن يبقى كل شعب مستقلا بنفسه وراء أبوابه: شعب بورسعيد وشعب الإسكندرية أو أسوان أو الشرقية أو أسيوط أو الإسماعيلية أو بقية الشعوب المصرية الشقيقة.. ولست أملك فى مواجهة كل ذلك إلا التأكيد على أن المصريين دائما كانوا وأبدا سيبقون شعبا واحدا يقيم فوق أرض واحدة، له تاريخ واحد ومستقبل واحد أيضا.. وربما كان سبب أو تفسير اختراع تعبير شعب بورسعيد هو ذلك الغضب الجماعى الذى استوطن عقولا وقلوبا فى مختلف البيوت والشوارع والميادين ضد ما جرى لجمهور الأهلى فى استاد بورسعيد، والوحشية التى جرى بها قتل أكثر من أربعة وسبعين شهيدا فى ملعب كرة قدم.. وبدلا من الإصرار على أن الذى قام بتلك الجريمة هم مجرمون من بعض جماهير النادى المصرى، وأن الجريمة نفسها وقعت فى استاد بورسعيد، تحول الكلام بسرعة، فتم حذف كلمتى بعض واستاد لتصبح جريمة قام بها أبناء بورسعيد فى بورسعيد، وبسرعة أيضا أصبح هؤلاء الأبناء هم شعب بورسعيد، وأصبحت بورسعيد كلها تقف فى القفص مدانة بعشق الدم وجريمة القتل.. وهذا ليس صحيحا على الإطلاق، فليس هناك أولا على الأرض شىء اسمه شعب بورسعيد، واتهام بورسعيد كلها هكذا مرة واحدة ليس فى مصلحة كل هؤلاء الذين يطالبون بالقصاص ممن قتل شبابنا وأولادنا فى استاد بورسعيد، لأن شيوع الاتهام بهذا الشكل يعنى أننا فى النهاية لن نضع أيدينا على أى متهم واحد حقيقى.. أما الذين يدافعون عن بورسعيد، فقد وقعوا فى نفس الخطأ، فقالوا على لسان نوابهم فى البرلمان وممثليهم فى الإعلام إن شعب بورسعيد لا يمكنه ارتكاب مثل هذه المذبحة، وليست هذه هى أخلاق شعب بورسعيد الوطنى الذى سبق له أن وقف وحده يحارب جيوش ثلاث دول عام 1956.. وعبثا تحاول أن تفهم ما هى العلاقة بين ما جرى فى حرب 1956 وجريمة كاملة وواضحة ومؤكدة جرى ارتكابها فى استاد بورسعيد، لكن من الواضح أن هؤلاء قرروا اتباع هذا المنهج.. إما أن نسكت ونقبل ما جرى ونترك الأيام تمضى وتذوب الجروح والذكريات، أو نصبح جاحدين نكره شعب بورسعيد ونتناسى حجم تضحياته وشهدائه الذين قدمهم للوطن فى ثلاث حروب سابقة خاضتها مصر.. وكأنه مقصود إثارة مثل هذه الفوضى وخلط الأوراق والأدوار.. ولا أظن أنه فى تلك الفوضى يمكن أن تبقى أى حقوق ظاهرة وواضحة أو فرصة لأى مساءلة ومحاكمة حقيقية لمتهمين حقيقيين، وإنما بات من الضرورى أن نتوقف كلنا الآن لإعادة ترتيب كل شىء، فالجريمة هنا هى قتل أكثر من أربعة وسبعين شاباً وصبياً مصرياً لم يرتكبوا أى ذنب أو خطيئة.. ومكان الجريمة أحد مدرجات استاد بورسعيد التى تم تخصيصها للأهلى.. والمجرمون رأيناهم على شاشات التليفزيون وهم يقتحمون الملعب ويطاردون لاعبى الأهلى بقصد الإيذاء، ثم يقتحمون مدرج الأهلى بقصد الترويع والقتل.. وهذه هى الحقائق المجردة التى لابد من مواجهتها لنبدأ المحاسبة والبحث عن قصاص.. الخطوة الأولى هى القبض على كل هؤلاء الذين ظهروا على الشاشات واللقطات المصورة بكاميرات أو تليفونات محمولة يحملون أسلحة وسكاكين.. وهناك شهادات لجماهير الأهلى التى عاشت هذه المذبحة، وخلال التحقيق مع هؤلاء المجرمين، سيتضح لنا إن كان هناك محرضون أو مخططون، سواء كانوا ينتمون للأمن أو العسكر أو الحزب الوطنى المنحل أو ليمان طرة.. ومن التحقيقات أيضا سنعرف إن كان دور الأمن فى تلك المذبحة هو التقصير والضعف، أم القصد والتآمر والانتقام.. وفى كل الأحوال، لا علاقة لذلك كله بشعب بورسعيد الشقيق. [email protected]