الجبلين يتأهل إلى دور ال 16 بكأس خادم الحرمين الشريفين على حساب الفتح    بدر عبد العاطي يلتقي وزير خارجية بوركينا فاسو    هجمات الاحتلال الإسرائيلي تدفع آلاف اللبنانيين للعبور إلى سوريا    شركة أنابيب البترول: نقل وتداول 8 مليارات طن كم خلال 2023-2024    وزير الرياضة يشهد على إنطلاق مدرسة فرانشيسكو توتي لكرة القدم    الأهلي يدعم فريقي السلة بصفقتين من أمريكا والسنغال    بعد القبض عليه.. تطور قضائي جديد في حبس الباحث إسلام بحيري    رغم تحسن الطقس.. الشبورة المائية في الصباح قد تسبب خطورة على الطرق    أحمد موسى بعد الإصابات المعوية بأسوان: خلي بالك من العيش    محمد أبو داوود ولبنى ونس في تجربة جديدة بتوقيع المخرج محمد هلال    الصحفيون الفلسطينيون نجم جوائز هيكل للصحافة العربية    ليلى عز العرب ونور قدري وطاهر أبو ليلة أبرز حضور العرض الخاص لفيلم "عنب"    رسائل نور للعالمين.. «الأوقاف» تطلق المطوية الثانية بمبادرة خلق عظيم    الكشف على 1049 مواطنًا خلال قافلة مجانية في البحيرة.. صور    تاج الدين: متابعة دقيقة للقادمين من الدول التي تشهد انتشار أمراض وتطعيمات للأطفال    بالأسماء .. الحركة القضائية للمحاكم الإدارية لمجلس الدولة    شركة المطورون العرب القابضة تشارك في سيتي سكيب 2024.. وتطرح مرحلة MUSE بنيووم مستقبل سيتي    «اتكلم باحترام».. كيف رد نجوم الزمالك على أحمد بلال؟    متحدث الإسكان: قرار إلغاء 70% من غرامات تأخير الشقق والمحال لدعم المواطن    5 توصيات لندوة مجلة الأزهر الشهرية حول المرأة    حقوق الإنسان التى تستهدفها مصر    تحديد موعد أول كلاسيكو فى الموسم بين ريال مدريد ضد برشلونة    وفد من الاتحاد الأوروبي يزور الأديرة والمعالم السياحية في وادي النطرون - صور    وزير الدفاع يشهد مشروع مراكز القيادة للقوات الجوية والدفاع الجوى    بحضور محافظة الدقهلية، نموذج محاكاة لخطة مواجهة سقوط الأمطار (صور)    بشرى سارة- ضخ كميات جديدة من الأدوية في السوق المصري (قائمة بالأسماء)    الأهلي يعلن عن صفقة جديدة قادمة من الزمالك    خالد الجندي يوجه رسالة للمتشككين: "لا تَقْفُ ما ليس لكم به علم"    أمين عام هيئة كبار العلماء: تناول اللحوم المستنبتة من الحيوان لا يجوز إلا بهذه الشروط    فنانو مصر يدعمون لبنان    صندوق أسرار مريم الجندي.. والدها من أشهر الفنانين وأخوها مخرج معروف    محافظ الدقهلية يشهد نموذج محاكاة للتأكد من استعداد الوحدات المحلية لمواجهة سقوط السيول والأمطار    روسيا: العالم الحديث يواجه تحديات غير مسبوقة ووحدة الدول ضد النازية دفعت لإنشاء الأمم المتحدة    البنك المركزي المصري يقبل ودائع بقيمة 848.4 مليار جنيه    وزارة الرياضة تنفذ سلسلة من الأنشطة المتنوعة للنشء بمراكز الشباب    «100 يوم صحة» قدمت 85 مليون و960 ألف خدمة مجانية خلال 54 يوما    رئيس جامعة القاهرة: لدينا علاقات قوية مع الجامعات الصينية ونبحث تبادل الزيارات والبرامج المزدوجة    وزير العمل: مصر تدعم كل عمل عربي مشترك يؤدي إلى التنمية وتوفير فرص العمل للشباب    اتحاد الكرة يعلن عن تشكيل الجهاز الفني لمنتخب الشباب بقيادة روجيرو ميكالي    بمجموعة من الإعفاءات.. «الضرائب»: النظام المتكامل للممولين يتميز بالتعامل مع كافة الأوعية    صاحبة اتهام صلاح التيجاني بالتحرش: اللي حابة تحكي تجربتها تبعتلي ونتواصل    توسيع نطاق الأعمال بمبادرة ابدأ.. كيف يمكن للصناعات المصرية الوصول للسوق الفنلندي؟    زيلينسكي يسعى لحشد الدعم للبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا    اختلال عجلة القيادة.. تفاصيل إصابة 4 أشخاص إثر تصادم سيارتين بمنشأة القناطر    الجيزة تزيل 13 كشك و"فاترينة" مقامة بالمخالفة بالطريق العام في المنيب    الشلماني يثير حفيظة القطبين قبل موقعة السوبر    جامعة الأزهر: إدراج 43 عالمًا بقائمة ستانفورد تكريم لمسيرة البحث العلمي لعلمائنا    CNN: استراتيجية ترامب فى إثارة مخاوف الناخبين بشأن الاقتصاد تحقق نجاحا    وزيرة البيئة تتوجه إلى نيويورك للمشاركة في أسبوع المناخ    إيرادات مفاجئة لفيلم عاشق في دور العرض المصرية.. تفاصيل وأرقام    صوت الإشارة.. قصة ملهمة وبطل حقيقي |فيديو    ضغوطات وتحديات في العمل.. توقعات برج الحمل في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2024    وزير الخارجية: لا يمكن الحديث عن تنمية اقتصادية واجتماعية دون أمن واستقرار    باستخدام كبرى العلامات التجارية.. التحقيق في واقعة ضبط مصنع أسمدة منتهية الصلاحية بالغربية    العراق يمنح سمات الدخول إلى اللبنانيين الواصلين إلى المنافذ الحدودية    الصحة تعلن حصول 3 مستشفيات على شهادة اعتماد الجودة من GAHAR    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 24-9-2024 في محافظة قنا    أضف إلى معلوماتك الدينية| دار الإفتاء توضح كيفية إحسان الصلاة على النبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنوب أفريقيا.. 3 استراتيجيات لبناء الدولة
نشر في المصري اليوم يوم 31 - 01 - 2012

بها الزعيم الجنوب أفريقى «ماديبا» الشهير ب«نيلسون مانديلا» فى تجربته لإعادة بناء دولته بعد زوال الحكم العنصرى منها، قام بتطبيقها على التكامل والتداخل: أولاها بناء الأمة عبر مد جسور التنمية فى جميع المجالات، والثانية إعادة تعريف وإصلاح العدالة، أما الثالثة فهى إعادة تنظيم الاقتصاد، ومؤسسات الدولة على المدى الطويل، للتأكيد على مبدأ حق تقاسم الثروات، وتحقيق المساواة فى الفرص.
وفى تلك الظروف العصيبة التى تمر بها مصر ذهبت «المصرى اليوم» فى جولة هناك للتعرف على تجربة جنوب أفريقيا فى التغيير من الحكم العنصرى القائم على الاستبداد والقهر والفقر، إلى عصر المساواة الذى وحد أكثر من 34 مليون نسمة مختلفى الأعراق والألوان تحت شعار «الوطن أولاً»، ليسجلوا فى التاريخ أنهم صنعوا مع زعيمهم «مانديلا» تاريخاً سيظل آية للبشر.
فجنوب أفريقيا، التى طالما مزقها الفصل العنصرى والاستعمار، باتت الآن هى القوة الاقتصادية الأكبر فى القارة السمراء، بفضل حسن استغلال مواردها، وقواها العاملة فى مختلف المجالات، حيث أصبح شعارهم جميعاً «لا يمكننا تغيير الماضى، ولكن نستطيع تغيير المستقبل.
ثمانى ساعات تقريبا هى زمن الرحلة من القاهرة لمطار جوهانسبرج، يبهرك أناقة تصميم المطار ونظافته واتساعه الرهيب، فهو لا يتفق مع تصوراتنا عن بلد أفريقى بوجه عام. فى الانتظار كان «جود فرى» الموظف بمكتب البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى جوهانسبرج، والذى تحدث طيلة الطريق عن بلاده فى الماضى وما باتت عليه الآن وكيف أن أهم ما أنجزوه هو وقف قطار الكراهية والعنف. أسأله عن أكثر الذكريات إيلاما له فى فترة الحكم العنصرى، فيجيبنى بقوله: «لا أنسى قوانين منع السود والملونين من التواجد فى مدينة جوهانسبرج بعد السابعة مساءً. كان هناك قوانين تحتم علينا أن نتنحى إلى جانب الطريق وقت السير إذا مر بجانبنا رجل أبيض. وهناك جسر بالمدينة كان ممنوع مرورنا عليه». يتوقف جود فرى ويسألنى عن الثورة فى مصر وما تبثه قنوات التليفزيون عن تجدد العنف فى التحرير بين الشرطة والمتظاهرين فى شارع محمد محمود ثم يقول: «عليكم إيقاف العنف بأى وسيلة وتوحيد أمم بلادكم». أسارع بتصحيح معلوماته وأخبره بأن سكان مصر ال85 مليوناً أمة واحدة وشعب واحد غير متعدد الأعراق. فتزداد دهشته ويتساءل: «إذا لماذا تتقاتلون؟!»، فأجيبه لأننا لم نجد الطريق بعد، ما زلنا نبحث عن «ماديبا» نتفق عليه وينير لنا الطريق.
نواصل الرحلة فى طرق جوهانسبرج شديدة النظافة والاتساع، فيلفت نظرك تلك الأسوار التى تحيط بكل مجموعة من الفيللات ذات الطابق الواحد التى تميز المدينة، أسأل مرافقى عن سر ذلك فيجيبنى بأن معظم المنازل تقع داخل تجمعات «كمبوند» وتحيط الأسوار العالية بها لارتفاع نسبة الجريمة بسبب الفقر الذى ما زال يعانى منه نسبة كبيرة من المواطنين والبطالة التى لا تقل عن 40%. ويبرر ذلك بقوله: «يفترس الفساد حقوق المواطنين فى بلادنا، و تزداد قسوته حينما يمارسه أبناء جنسك ولونك».
مرارة حديث «جود فرى» تتفق مع البيانات الرسمية الخاصة باقتصاد دولة جنوب أفريقيا، التى تصنف ضمن شريحة أكبر اقتصادات جنوب الصحراء فى أفريقيا، حيث نجحت فى الانضمام للشريحة الأعلى ضمن البلدان المتوسطة الدخل، بل ويعتبر اقتصادها أكبر من الاقتصاد الماليزي. ورغم أن الفارق بين حجم صادراتها البالغ نحو 67 بليون دولار ووارداتها البالغ 70 بليون دولار ليس بالكثير، إلا أن معدلات الفقر بها لا تزال عالية جدا نتيجة سوء توزيع الثروات التى لا تزال تتركز فى يد البيض بحكم التعليم والمهارات المكتسبة، وقلة من السود الذين باتوا يمتلكون النفوذ والثروة.
بدأ جدول الرحلة فى جوهانسبرج بزيارة متحف «الأبارتيد» أو التمييز العنصرى، حيث جمع الجنوب أفريقيين فيه صور ضحايا تلك الحقبة وبالطبع كل ما له صلة بزعيمهم الروحى «نيلسون مانديلا». الإصرار على منحك أجواء الماضى فى تلك البلاد، تلحظه بمجرد إمساكك بتذكرة الدخول التى تصنفك كأبيض أو أسود، ليكون دخولك من البوابة التى تناسب لون بشرتك تماما. كما كان يحدث فى الماضى المؤلم بالنسبة لهم. حيث تجد بوابتين للدخول إحداهما للبيض والأخرى للسود والملونين. وتستقبلك عند دخولك القاعة الأولى صور بطاقات هوية بعض السود بحجم كبير، لتكتشف بالتدقيق فيها أنها لضحايا قتلوا أو ختفوا فى أحداث عنف عنصرية. كل الصور موثقة بالتاريخ وتفاصيل الحادث فى إيجاز دون مزايدة كأقل تكريم لمن دفعوا حياتهم ثمنا لديكتاتورية التمييز. تواصل السير فتدخل قاعة كبيرة للزعيم نيلسون مانديلا بها صوره وكلماته وبعض من مسيرته وشاشة تعرض خطبه للمواطنين. تتوسط القاعة سيارة مرسيدس حمراء لامعة لم تستخدم لصق على زجاج إحدى نوافذها قصتها التى تشير إلى أن إحدى الأسر الغنية أهدتها لمانديلا عقب خروجه من السجن ولكنه فضل أن يهديها للمتحف ويسير وسط الناس ليظل رمزاً.
خارج القاعات تجد مقهى يعمل به مجموعة من الشباب الأفريقى وتديره سيدة بيضاء تخطت الستين من عمرها لا تتوقف عن الضحك معهم وتوجيههم لسرعة خدمة الزبائن، اسمها «ديل جيللى». نتحدث معها فنعرف أنها ولدت وعاشت فى جنوب أفريقيا وأنها عاصرت الكثير من ممارسات التمييز التى لم تكن ترضى كل البيض وهى منهم، وتضيف: «حينما جاء مانديلا مناديا بالتسامح أيدته أنا وكثير مثلى لأننا تعبنا من تلك القوانين، فأنت لا يمكنك تغيير الماضى ولكنك تستطيع تغيير المستقبل».
التصالح فى مجتمع مثل جنوب أفريقيا ليس بالشىء السهل، فالحديث عن الجنوب أفريقيين البالغ عددهم 34 مليون نسمة لا يعنى الحديث عن أمة واحدة، لكن عن قطعة موزاييك تتنوع فيها الأعراق لتجمع بين البيض البالغ عددهم 5 ملايين نسمة والمنتمين لهويات ألمانية وفرنسية وهولندية وإنجليزية، وكذلك السود وهم الأغلبية من البانتو التى تنقسم لمجموعات وقبائل منها «نجونى»، التى ينبثق منها شعب «السوازى» وشعب «الزولو»، و«تسونجا» التى خرج منها شعب «رنجا» و«تسوا»، بالإضافة لهاتين المجموعتين هناك جماعات ال«فندا» و«السوتو»، ثم هناك المكون الثالث لجنوب أفريقيا وهم السكان الملونون من الآسيويين الذين هاجروا لجنوب أفريقيا منذ سنين بعيدة، وتعود جذورهم لماليزيا والهند وباكستان. ولذا يدرك العالمون بتفاصيل العملية السياسية فى تلك البلاد، كم كانت صعوبة مهمة رجل مثل «نيلسون مانديلا»، الذى أقنع السود باتباعه، والبيض بعدم مخالفته.
حاولنا لقاء «ماديبا» الملقب بنيلسون مانديلا، إلا أن رفقاءه فى مؤسسته التى تحمل اسمه فى جوهانسبرج أخبرونا أن حالته الصحية والذهنية لا تسمح بعد أن تجاوز التسعين ببضع سنوات، واستضافونا فى مكتبه بالمؤسسة حيث كان يفضل العمل والجلوس للقاء مريديه وزواره. لنلتقى مساعديه «فيرن هاوس» القريب من مانديلا والموثق للجنة الحقيقة والمصالحة وجلساتها وكل تفاصيلها منذ بدئها العمل فى العام 1994، وزميله «سيليو هاتانج».
بدأ «فيرن» الحديث قائلاً: «تمرون فى مصر بمرحلة دقيقة ولو لم تتمكنوا من رأب الصدع ودفع الاقتصاد بقوة، ستنهار ثورتكم ومعها أمن بلادكم. لقد بنى مانديلا تجربتنا بعد زوال الحكم العنصرى على ثلاث استراتيجيات متكاملة ومتداخلة، أولها بناء الأمة عبر مد جسور التنمية فى جميع المجالات وفى ذات الوقت، ثم إعادة تعريف وإصلاح العدالة التى غابت عن الحقب الماضية، وأخيراً إعادة تنظيم الاقتصاد ومؤسسات الدولة على المدى الطويل للتأكيد على مبدأ حق تقاسم الثروة وتحقيق المساواة فى الفرص، ومنحتنا تلك الرؤية للمستقبل، تصديق الناس لمانديلا والسير ورائه، فقبلوا بالجلوس معا على مائدة المفاوضات وتحدثت كل الأطراف مع بعضها حول حقوق وواجبات الجميع».
تشير الوثائق فى مؤسسة مانديلا لإصرار ذلك الرجل على تحقيق المصالحة بين طوائف شعبه دون تجاهل الماضى، ولذا وضعها على قائمة أولوياته فى فترة رئاسته من 1994- 1999، فأشرك السياسيين المتهمين بالعنصرية وأحزابهم التى ينتمون لها، فى حكومة وحدة وطنية.
«لم يكتف مانديلا بتلك الخطوات المعنوية ولكنه اتجه لخطوات واقعية لإرساء الرضا والسكينة فى نفوس السود والملونين ممن أضيروا فى الحقبة العنصرية».. هكذا تحدث «سيليو هاتانج» مضيفاً: «لقد أعاد الملكية للذين أُجبروا على ترك أراضيهم فى الفترة من 1913-1994، و ملَّك الأرض لمن يجيدون الزراعة معلنا سعيه لتمليك السود نحو 30% من المزارع التجارية بحلول عام 2014. كما أصدر قانون لتحقيق المساواة فى التوظيف فى القطاعين الخاص والعام عرف باسم«Affirmative Action» «وحدد به نسبة يجب ألا تقل عنها أعداد السود فى الشركات. وقانون«Black Economic Empowerment» الذى يعرف اختصارا باسمB.E.E أو تقوية الاقتصاد الأسود، لتسهيل دخول السود عالم المال والأعمال الذى يسيطر عليه غالبية البيض لتحقيق المساواة فى المجتمع. وتبنى حزب المؤتمر الوطنى برنامج إعادة البناء والتنمية منذ عام 1994 وخُصص لها وزير فى مكتب الرئيس، وهى نفس الوزارة التى تم تغيير اسمها بعد عامين بعد فشلها فى تحقيق المهام المنوطة بها وتم وضع برنامج اسمه «النمو، التوظيف، واعادة توزيع الثروات»، واستفاد من هذا البرنامج منذ عام 1996، وحتى اليوم نحو 12 مليون جنوب أفريقى».
ثم كانت لجنة الحقيقة والمصالحة التى وصفت بأنها أكبر مسح لاحترام حقوق الإنسان تم إجراؤه بجدية فى العالم واستمر عملها من عام 1996-1998، وركزت على رصد الانتهاكات التى حدثت فى الفترة من 1960- 1994 من خلال توصيف حالات الانتهاك وتوثيقها، فنجحت لجنة الحقيقة والمصالحة فى تجميع الجنوب أفريقيين سياسيا لجمع ذكريات الماضى الأليم ومناقشتها لبناء الدولة وتحديد الهوية. وهو ما يقول عنه «فيرن هاوس»: «كانت هناك رؤيتان لكيفية التعامل مع الماضى، أولاهما أن السود ليسوا ضحايا بل مناضلين من أجل الحرية، وهو ما يعنى أنهم لا يريدون لجنة للحقيقة. أما الثانية فترى أننا لن نستطيع التعامل مع المستقبل دون معالجة الماضى. وتلك هى الرؤية التى حظيت بالتأييد، فكانت لجنة الحقيقة وكان «مانديلا» أكبر داعم لها، لأنه كان يحظى باحترام الجميع حتى المذنبين الذين أيقنوا أن توافقهم معه سيجعلهم مقبولين فى المجتمع».
كانت حقائق اللجنة بلا دليل، ولكن منحتها اعترافات المذنبين التوثيق اللازم لها، بشكل ساعد على التئام الجراح. وضمت اللجنة فى عضويتها شخصيات ذات مصداقية عالية فى مقدمتهم القس «ديزموند توتو» الداعى للتسامح دوماً، وتمت إذاعة جلسات الاستماع لقصص الضحايا والمذنبين ونقل وقائعها للناس عبر تغطية إعلامية واسعة. وتذكر الأوراق أن أكثر من 22 ألف ضحية من ضحايا الحكم العنصرى تقدموا بطلبات للجنة، من بينهم 10% فقط كانوا يمتلكون الأدلة على ما مورس ضدهم من جرائم، بينما قدم أكثر من 7000 مذنب طلبات للعفو، وكان السؤال الذى يدور حوله الجميع هو كيفية التعامل مع الجرائم التى مورست تحت مظلة العنصرية. ولكن كان قرار مانديلا هو العفو عن المعترفين بذنوبهم مهما كانت، ولكن كان العفو مشروطاً بمنح المعلومات الدقيقة عن الانتهاكات والاعتراف بالذنب ثم الاعتذار.
كان للجنة الحقيقة والمصالحة، أخطاء ظهرت فى عدم قدرتها على الاستماع سوى لنسبة قليلة من الأصوات الواقعية للضحايا بينما شعر الكثير منهم بالإقصاء عن تلك العملية، كما أن بعض العائلات كانت تفضل أن ترى العدالة وقد أخذت مسارها بعقاب المذنبين، ولذا لم يحبذوا فكرة منح العفو مقابل الاعتراف بالذنب، ورفض البعض التقرير النهائى للجنة الحقيقة والمصالحة، لأنها ساوت بين جرائم العنصرية التى مورست ضد الإنسانية وبين عدم احترام حقوق الانسان. ولكن كسبت إرادة «مانديلا» تلك المعركة، لأنه أصر على احترام شرعية نتائج التحقيق وإعلان نتائجها حتى لو لم ترض الجميع، وهو ما كان، إلا أن عدم التزام الحكومة بتوصيات التقرير الخاصة بتقديم الدعمين المادى والمعنوى للضحايا ساهم فى زيادة النقد الذى واجهته اللجنة، فقد أوصى التقرير الحكومى بتوقيف من لم يحصلوا على العفو والتحقيق معهم، ولكن لم يصدر سوى توقيفين فقط فشعر البعض بالإحباط، ليطرح السؤال نفسه اليوم، ما مدى نجاح جنوب أفريقيا فى التعامل مع ماضيها واجتيازه؟
يجيب «فيرن هاوس» بقوله: «لقد بذلنا جهداً كبيراً طيلة فترة رئاسة مانديلا، وبعدها توقفت الجهود وبقى أقوياء الماضى على حالهم وظهر أقوياء غيرهم من السود، وظل البناء الاجتماعى غامضا فى ظل نمو الفروق بين من يملكون ومن لا يملكون وتباطأت عملية الإصلاح السياسى، فبات هناك معدلات غير مقبولة للجريمة والعنف المنظم، بالإضافة لزيادة معدلات الإصابة بالإيدز والأمية والبطالة، ولذا وبعد مرور نحو 17 عاما، علينا الجلوس مع بعضنا مجدداً لتحديد الخطوات الجديدة التى علينا القيام بها، لأن من حق المواطن أن يشعر بأنه موجود وأن الفساد تتم محاربته».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.