تُرى ماذا يفعل الآخرون بلغتهم الأم؟! على سبيل المثال، الألمانى يعتز بلغته ولا يقبل التحدث بغيرها إلا فيما ندر. وإذا أنت استوقفتَ فى الطريق من يمكن الاستعانة به لمعرفة دربك فى تلك المدينة الكبيرة، يشرح لك بالألمانية، فعلى الرغم من إتقانه الإنجليزية والفرنسية فإنه يُصر على لغته، ولا يهمه إن ضربت رأسك بالحائط!. واعتداد الألمانى بهويته ولغته أدى بالحكومة إلى إرغام أبناء المهاجرين على تعلم الألمانية، مجانًا، وخصوصًا فى الأحياء التى تغص بالمهاجرين من الجيل الأول، على الرغم من أنهم من كبار السن، فالألمان يشعرون بأن من واجبهم تعليم اللغة لكل من يقيم على أرضهم. ولا يمكن أن تجد مسؤولًا يتحدث فى مؤتمر أو لقاء عام بغير اللغة الألمانية، فى الوقت الذى يجيدون فيه لغات أخرى. ولم تكن اللغة الألمانية يومًا عائقًا فى عالم المال والأعمال والاستثمار، بل تفوقت على لغات أكثر تداولًا، وباتت اليوم من بين أكثر اللغات استخدامًا على مستوى العالم. ونجد أن الاتحاد الأوروبى، فى دستوره، لم يقضِ على هوية ولغة الدول المنضوية تحت لوائه، فلكل دولة لغتها وثقافتها، تتفاعل مع لغات وثقافات الدول المشتركة معها فى وحدة المصير السياسى والاقتصادى. أين نحن من ذلك كله، وماذا فعلنا نحن بلغتنا العربية الجميلة؟! باستثناء حملة «اتكلم عربى»، التى أطلقتها السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الهجرة السابقة، كمبادرة وطنية للتركيز على القيم والثقافة المصرية، وتعريف الجيل الطالع بتاريخه وحضارته المتجذرة فى القدم، ووصل ما انقطع بين المغتربين ووطنهم الأم. ولا أعلم إذا كانت توقفت مع رحيل الوزيرة؟! العربية أعرق اللغات على وجه البسيطة، بها نزل القرآن، وبها خاطب الله الأنبياء، وبها دُونت أصول كل العلوم التى نراها اليوم.. هى مرآة العقل وأداة التفكير، لغة الأمة هى التى تحتضن مخزونها الثقافى ومخزونها العاطفى، لتُكَوِّن عقلية أهلها الذين يتحدّثون بها ويتعلمون بها، وتسوغ نفسياتهم وطريقة تفكيرهم، فاللغة فكرٌ ناطقٌ، والتفكير لغةٌ صامتةٌ. هى أثرى لغة بين لغات العالم، تجد فيها من المعانى والعبرات ما لا يمكن حتى ترجمته باللغات الأخرى فلماذا هذا التنكر؟!.. هل أساءت لنا لغتنا حتى نهينها كل هذه الإهانة... فى بلادى ترى السياسى والمثقف يتكلم الفرنسية والإنجليزية حتى يبرز مدى ثقافته، فى حين أنه لا يستطيع إنشاء جملة صحيحة لغة ومعنى بلغته، فتجده يتلعثم ويبحث عن المفردات ثم يعود للحديث باللهجة العامية. أصبحنا نستهزئ بلغتنا، ونفتخر بأننا نتكلم لغة غيرنا، حتى أصبح التكلم بالإنجليزية أو الفرنسية علامة من علامات التحضر، والتكلم بالعربية صار للتندر فقط والاستهزاء أحيانًا... هذا التنكر للغة هو من علامات الهزيمة النفسية التى نعيشها. من الاعتراف بحقيقة صادمة أنّ اللغة العربية، كما تشرحها المعاجم، متوارثة بنمطية وجمود منذ ألف سنة ويزيد، كما لابد من الاعتراف بأنها خارج العصر، لا تستطيع أن تجاريه فى تطوّره المُطرد. إنّ مجامع اللغة العربية، وعددها أربعة عشر مجمعًا، إضافة إلى «معهد اليمن للغة العربية»، و«مجلس اللسان العربى» فى موريتانيا، التى نصَّبت نفسها، فى هذا الزمن الأحول، حارسة للغة الضاد وقيّمة عليها، ومولجة ب«تدبير» شؤونها. هذه المجامع تحديدًا، هى حقيقة، التى تحتاج إلى تحديث وتطوير وعصرنة، بعدما هجعت فى أقبية التقليد والمحافظة و«الأصالة»، متهيبة الانفتاح على ثورات العصر التكنولوجية والرقمية، وبقيت عاجزة عن توفير بدائل تستجيب لمنطق العصر، وإنتاج مناهج وطرق جديدة، وتعترف بأن مفردات جديدة دخلت على اللغة اليومية، غالبيتها أعجمية، لكنها متداولة، وبات الكُتّاب يدخلونها فى مقالاتهم. على مدى أسبوع، سجلت الكلمات التى استُخدِمت فى المقالات والزوايا فى الجرائد: «تايبست»، «سايكوبات»، «فيمينست»، «كوبرنيكية»، (فعرّبها: كوبرنيقية)، «مانشيت»، «إنترنت»، «فاستفود»، «جوجل»، «تاكسى»، «موبايل»، «بارومتر»، «فورمات»، «أوفر»، «مونوبول»... ويأتى من يُعيّر الشباب، ويلومهم، ويتهمهم بالتمرد الاجتماعى، لاعتمادهم لغة خاصة أثناء استخدامهم «إنترنت» متغاضين عن حقيقة صادمة، وهى أن اللغة العربية ليست قادرة على محاكاة المفردات التقنية المستخدمة فى عالم الاتصالات الحديثة. لذلك يلجأ الشباب إلى البديل، وهو اللغات الأجنبية التى تتفاهم، وتتصالح مع ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة. إن تطوير اللغة أو تحديثها لا يعنى البتّة التخلى عن قواعدها، فما من لغة بلا قواعد، حتى اللغة العامية لها قواعدها. لكن المطلوب تحديث هذه القواعد لتتماشى مع العصر. كانت هناك محاولات كثيرة لتبسيط قواعد النحو والكتابة بالعربية، دعا لها أحمد أمين وسلامة موسى، إلى أن جاء عميد الأدب العربى د. طه حسين ليقوم بثورته فى رسم حروف الكتابة باللغة العربية. فظهرت جريدة الجمهورية فى 7 يونيو 1956 بعنوان بارز على الصفحة الأولى: «طه حسين يقوم بانقلاب فى رسم حروف الكتابة العربية». ثم عنوان جانبى: «مصطفا أعطا موسا هاذا الكتاب.. طه حسين ينفذ الانقلاب غدًا»!، وأوضحت الجريدة أن العميد قد كتب مقالًا ورسم حرف المقال على قاعدة جديدة تهدف إلى رسم الكلمات العربية كما ننطقها. فتُلغى الألف المقصورة وتُستبدل بها الألف الظاهرة فى كل كلمة مثل «مصطفى» فتصبح «مصطفا»، و«أعطى» تصبح «أعطا»، و«موسيقى» تصبح «موسيقا»، ونثّبت حرف المدّ فى جميع الكلمات فى كتابتها، «هذا» تصبح «هاذا» و«هؤلاء» تصبح «هاؤلاء». ومهما كان أسلوب التطوير، فيجب أن تواكب لغتنا العربية الجميلة العصر وتواكب المستجدات الجديدة المرتبطة بتقنيات حديثة تسمح بترويج لغتنا وعولمتها.