إن مجتمعنا يموج بعشرات الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية، وما أحوجنا لكل طاقة نور من كل عقل يفكر لنرى أين نحن؟ وإلى أين نسير؟. مدفوعًا بالإيمان الراسخ بمضمون هذه المقولة التى جاءت على لسان أحد أبرز الآباء المؤسسين فى ميدان الفلسفة والثقافة فى مصر، وهو الراحل الدكتور زكى نجيب محمود، عُدت ضمن خطة قراءات البحث عن الطريق الذى ألزمت نفسى به طوال عام 2024 لقراءة الورقة البحثية المهمة «مستقبل الثقافة فى مصر» التى قدمها فى ديسمبر 2010 الدكتور إسماعيل سراج الدين، المدير الأسبق لمكتبة الإسكندرية. تضمنت هذه الورقة مشروعًا ثقافيًا مصريًا عصريًا يستلهم فى الاسم والمضمون مشروع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين الذى طرحه فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى نُشر عام 1938، ويتفق مع منطلقه الأساسى فى التأكيد على مدنية الدولة المصرية، وأهمية التعليم لصناعة المستقبل، وصعوبة فصل التعليم عن الثقافة. لكن هذا المشروع الثقافى الجديد ظلمه توقيت صدوره قبل شهر فقط من قيام ثورة يناير 2011، وفى خضم انشغال المصريين والقيادة السياسية ومؤسسات الدولة المصرية بأهم أزمة سياسية واقتصادية وأمنية وجودية واجهت الدولة المصرية فى تاريخها الحديث والمعاصر، مما أدى إلى تجاهل هذا المشروع، رغم أهميته القصوى فى إصلاح الثقافة المصرية وبناء الإنسان والمجتمع المصرى اللذين أصبحا هدفًا استراتيجيًا للدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو 2013، وهى الثورة التى كان وقودها وقوتها الدافعة رغبة النخبة الوطنية المصرية فى الحفاظ على ثقافة وهوية ومدنية الدولة المصرية. يتكون مشروع الدكتور إسماعيل سراج الدين من سبعة محاور رئيسية وخاتمة، المحور الأول «إطلالة أولية»، تتضمن أربعة مباحث: مصر فى خمس دوائر ثقافية، ثقافتنا العربية وثقافة المعرفة، حول الهوية المصرية، مجابهة الأوضاع الراهنة». المحور الثانى «الوضع الثقافى الراهن»، تضمن مبحثين: (المجتمع الثقافى المصرى، إشكاليات ثقافية رئيسية، هى إشكالية الكتاب، إشكالية الأغنية، إشكالية السينما، إشكالية المسرح). المحور الثالث «الإصلاح الثقافى فى مصر»، تتضمن أربعة مباحث: الرؤية والهدف، أهداف محددة على المديين الطويل والقصير، عن التعليم والثقافة، صناعة الإبداع. المحور الرابع «المؤسسات والآليات»، يتضمن سبعة عشر مبحثًا (المتاحف، المكتبات والقراءة للجميع، المجلس الأعلى للآثار، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الهيئة العامة للكتاب، المجلس الأعلى للثقافة، أكاديمية الفنون، قطاع الفنون التشكلية، قطاع المسرح، قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية، المركز القومى للمسرح، الأوبرا، السينما، المركز الوطنى لرعاية الحرف التقليدية، الجمعيات العلمية، المجلات الثقافية وإصلاح أوضاعها، دار الكتب والوثائق القومية، المركز القومى للترجمة). المحور الخامس «التمويل»، يتضمن أربعة مباحث (صندوق التنمية الثقافية، صندوق تمويل الآثار، القطاع العام والقطاع الخاص، استخدام الضمان الحكومى. المحور الخامس «الثورة الرقمية وكيفية التعامل معها» يتضمن ستة مباحث (الثورة المعرفية الجديدة الأعمدة السبعة، لجنة لتوثيق التراث رقميًا، مؤسسة قومية للإيداع الرقمى، صندوق للإبداعات الرقمية، الاهتمام بالنشر الرقمى، حول الملكية الفكرية فى العصر الرقمى). المحور السابع والأخير «حول آليات التنفيذ والمتابعة». أبرز الأهداف الثقافية الاستراتيجية التى ذكرها الدكتور إسماعيل سراج الدين فى مقدمة مشروعه، هو استعادة الحيوية الثقافية المصرية فى كل ميادين الثقافة المعاصرة، وتمكين مصر من القيام بدورها فى الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية والمتوسطية والعالمية انطلاقًا من قاعدة ثقافية محلية حديثة ومتطورة. وإعادة بناء صورة مصر كدولة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. مع السعى لتوطين الثقافة العلمية والنزوع المعرفى الأصيل لدى الشباب المصرى، وإعادة بناء الشخصية المصرية المعاصرة، والاهتمام بالشباب الذين يُشكلون القوة المحركة للزمن القادم وقاطرة دخولنا إلى عصر الثورة العالمية المعرفية وصناعة مستقبل معرفى وثقافى واعد لمصر والمصريين. وقد سبق ذلك الإقرار فى مقدمة المشروع بأن الثقافة المصرية فى أزمة كبيرة يُمكن تلمسها فى تجليات مرضية كثيرة، منها تردى السلوك الإنسانى والمهنى على كافة المستويات، وغياب التفكير النقدى، وكثرة المساجلات دون أن يكون لها مردود فى تقدم المجتمع، وشيوع العنف بكل تجلياته اللفظية والسلوكية على الصعيد المجتمعى، بالإضافة إلى ضيق الأفراد بالمختلفين معهم ثقافيًا ونوعيًا وعلميًا ودينيًا. ورأى الدكتور إسماعيل سراج الدين أن الإصلاح الثقافى الشامل هو المدخل الرئيسى لعلاج هذه الأمراض الثقافية، وإعادة بناء الشخصية المصرية المعاصرة، بحيث تكون أكثر تسامحًا وانفتاحًا على التعددية، وأكثر قبولًا للرأى الآخر. شخصية تؤمن بالعقلانية والمنهج العلمى، وتمتلك قدرًا من الثقافة العلمية والإنسانية. شخصية متعددة الأبعاد مركبة من مخزون تاريخى ومعرفى هائل، ومطلعة على ما يحدث بالعالم، وبهذا نُعيد بناء قوة مصر الناعمة، ونُعيد مكانة مصر بين الأمم، وهى المكانة التى تُبنى على الاحترام والتقدير المتبادل، ولا تؤخذ بالقوة والغلبة، ولا تُشترى بالمال، بل تُكتسب بالجهد والعمل والعطاء الوفير، وتُثبت بالبناء والاستمرار.