تمر هذه الأيام ذكرى حزينة علينا جميعا كعرب ومصريين.. إنها ذكرى نكسة 5 يونيو 1967.. حيث استيقظت البلاد العربية على وقع مهاجمة الطائرات الإسرائيلية مواقع الجيش المصرى، فدمرت الطائرات المصرية فى مطاراتها، وهاجمت الجولان السورى.. ورغم أن هذه الضربة اعتبرها الكثيرون قاضية لمشروع مصر عبدالناصر، إلا أن مصر نفضت غبار الهزيمة والانكسار سريعا ولملمت جراحها وبدأت سريعا فى شن حرب استنزاف مباشرة بعد النكسة أدت فى النهاية لتحقيق نصر أكتوبر واستعادة سيناء مرة أخرى.. ومن المؤلفات التى أرخت لهذه الفترة كتاب «هزيمة يونيو.. حقائق وأسرار» للواء طه المجدوب، أحد أبطال حرب أكتوبر. فليس ثمة شك فى أن حرب الاستنزاف بكل متاعبها وآلامها كانت بمثابة مرحلة المخاض التى واكبت المولد الجديد للقوات المسلحة المصرية.. تلك المرحلة التى خلقت هذا المستوى الرفيع من الأداء المتقن والبطولى الذى ظهر به المقاتل المصرى فى أكتوبر 1973.. عندما بدأت حرب التحرير. لقد كانت حرب الاستنزاف هى البوتقة التى صهرت المقاتل المصرى وصقلت خبراته وعالجت جروحه النفسية والمعنوية العميقة التى تركتها فيه هزيمة يونيو 1967 وهى رغم ضراوتها ورغم كل الأضرار المادية التى حاقت بمصر فى المجالين العسكرى والاقتصادى فإن نتائجها الإيجابية كانت عظيمة الفائدة بعيدة الأثر فى التمهيد للنجاح الذى تحقق فى حرب أكتوبر 1973. فقد بعثت حرب الاستنزاف الثقة فى نفس الجندى المصرى وفى سلاحه وفى قياداته، وفى قدرته على مواجهة عدوه وقتاله وقتله وأسره.. وكانت هذه المواجهة المباشرة بين المقاتل المصرى وعدوه والتى حدثت لأول مرة فى حرب الاستنزاف أمرا ضروريا بل وحتميا لكى يتعرف المقاتل المصرى على حقيقة عدوه وأسلوب قتاله.. ولكى يتأكد بنفسه من زيف الأساطير التى أطلقتها إسرائيل حول مقاتلها الذى لا يقهر.. بعد أن واجهه وقهره.. بمثل هذه المواجهات اليومية التى استمرت شهورا طويلة، أمكن صقل المقاتل المصرى وتطوير قدراته القتالية، وتنمية الروح الهجومية لديه ودعم معنوياته.. كل هذه الأمور انعكست إيجابيًا على أدائه القتالى عندما اشتعل القتال فى أكتوبر 1973، وواجهت إسرائيل نوعية مختلفة من المقاتلين.. حتى إن القيادة الإسرائيلية صدمت بالمستوى الرفيع للأداء القتالى للجندى المصرى واعتبرته المفاجأة الكبرى لهذه الحرب.. وأعلنت أن الجيش الإسرائيلى قد واجه لأول مرة مقاتلًا مصريًا شرسًا وعنيدًا. يستخدم سلاحه بكفاءة وثقة ويقابل الموت بشجاعة نادرة. ويشير اللواء المجدوب إلى أن حرب الاستنزاف كانت من وجهة نظر القيادة المصرية خطوة حيوية وضرورية، فرضتها معطيات الموقف العسكرى والوضع السياسى، الذى ترتب على هزيمة يونيو 1967. فقد كان على مصر ألا تستسلم للأمر الواقع وأن تحتفظ بجبهة عسكرية مشتعلة، لكى تبقى القضية حية وحتى لا يتجمد الموقف السياسى عند هذا الحد. وحتى لا تعتقد إسرائيل أن ما حدث وما حصلت عليه من انتصارات سهلة لا يمكن أبدا السكوت عليه أو قبوله وأنه أمر مرفوض تمامًا من مصر والعرب. ويضيف أنه من ناحية أخرى فقد كان ضروريا لمصر أن تثبت لإسرائيل بما لا يدع مجالا للشك أن ثمن احتلال الأرض المصرية ثمن باهظ يصعب على إسرائيل أن تستمر فى تحمله أو مواجهة تحدياته على المدى الطويل. وكان على مصر أن تعمل بكل الوسائل على تحريك الأوضاع السياسية وإحياء الجهود الرامية إلى تحقيق تسوية عادلة أو على الأقل تفتح الطريق نحو هذه التسوية. من ناحية أخرى فإن نجاح مصر فى إقامة شبكة قواعد الصواريخ المضادة للطائرات ونشرها بحيث غطت عمق الأراضى المصرية، وجبهة القتال فى قناة السويس كان دليلا قاطعا على أن الجهد الإسرائيلى المكثف المتواصل والعنيف الموجه ضد أراضى مصر سواء فى وادى النيل أو فى منطقتى قناة السويس وخليج السويس قد فشل فى تحقيق المهمة الاستراتيجية العاجلة للاستنزاف المضاد، وهى منع إقامة قواعد الصواريخ فى منطقة قناة السويس، وكذا فشلت المهمة الأساسية الخاصة بإجبار مصر على وقف حرب الاستنزاف ذاتها، كذلك فإن التصدى المعنوى الذى مارسه شعب مصر فى مواجهة التحديات المادية والضغوط النفسية وتحمل الخسائر الكبيرة فى أرواح العسكريين والمدنيين كان فى حد ذاته عاملا من العوامل الاستراتيجية الحاسمة والمؤثرة على الصراع المحتدم، بل كان فى التحليل الأخير هو الفيصل الذى جعل النجاح - فى النهاية - فى جانب مصر. أما البعد السياسى للموقف فيشير المؤلف إلى أنه لم يتحقق سوى بعد مرور خمسة عشر شهرا على بداية حرب الاستنزاف وبعد تطورات عسكرية عديدة وواسعة النطاق.. وذلك عندما وجدت الولاياتالمتحدة نفسها مضطرة تحت ضغط ظروف الموقف العسكرى الإسرائيلى وظروف الموقف السياسى والاستراتيجى فى ضوء علاقات القوى الكبرى المتصارعة فى المنطقة إلى التقدم بمبادرة لوقف إطلاق النار.. دون أى شروط.. ولأول مرة تسرع إسرائيل فى قبول وقف إطلاق النار، بعد أن ظلت ترفض كل عروض السلام، ونتيجة لهذا التعنت الإسرائيلى المستمر فشلت كل جهود السفير جونار يارينج ممثل السكرتير العام للأمم المتحدة من أجل وضع القرار موضع التنفيذ. ويؤكد «المجدوب» أننا إذا استعرضنا النتائج السياسية التى انتهت إليها حرب الاستنزاف فسوف نجد أن أهمها شأنًا وأبعدها أثرًا هو قبول كل من مصر وإسرائيل المبادرة الأمريكية الخاصة بوقف إطلاق النار، حيث إنه بالنسبة لمصر كان لقبول المبادرة آثاره البعيدة على علاقات مصر الخارجية فى ثلاثة اتجاهات ترتبط ارتباطا وثيقا فى ذلك الوقت.. وهى سياسة مصر الخارجية تجاه كل من الاتحاد السوفيتى.. والولاياتالمتحدة.. والدول العربية. كما أن الدراسة التى تمت لنظرية الأمن الإسرائيلى وتفنيدها وتحليل نقط القوة ونقط الضعف فيها، كانت هى حجر الزاوية لخطة عمليات حرب أكتوبر. إن التخطيط السليم يجب أن يقوم أولا على دراسات تفصيلية دقيقة لفكر الطرف المعادى واستراتيجيته وأساليبه.. والعمل على إحباط هذه العناصر أو إضعاف قوتها. وفى الحقيقة، فإن توقف القتال فى 8 أغسطس 1970 لم يكن يعنى توقف عجلة الحرب.. ولكنه فى واقع الأمر كان بداية لمرحلة ضرورية جديدة دخلتها مصر منذ هذا التاريخ.. مرحلة مليئة بالحيوية والنشاط والعمل.. رغم ما بدا على السطح من هدوء، خدع القيادة الإسرائيلية، وكل أجهزة المخابرات الغربية والإسرائيلية، وجعلتها تعتقد وتعلن أن مصر وقواتها المسلحة قد تحولت إلى جثة هامدة.. بينما فى الواقع كانت زاخرة بالنشاط الكثيف والعمل الصامت الدؤوب تستعد لمعركة التحرير الكبرى.