تحمل الشوارع سرديات وعادات ساكنيها، ومع مرور السنوات تتغير الشواهد والجدارن، فيما تبقى رائحة التاريخ تكشف عن ذاكرة معمارية وحكايات تشكل جزءا من الهوية الوطنية. استلهامًا من سلسلة «ذاكرة المدينة» التى يصدرها «الجهاز القومى للتنسيق الحضارى» التابع لوزارة الثقافة، برئاسة الدكتور محمد أبو سعدة، تقدم «أيقونة» لقرائها حلقات «ذاكرة جاردن سيتى» كموجز لتاريخ المدينة المعمارى، يُعنى بإلقاء الضوء على تاريخ شوارعها. جاردن سيتى، واحد من أجمل الأحياء فى القاهرة، بمجرد أن تطأه قدماك تخطف تفاصيل شوارعه عينيك وتستعيد مخيلتك سطور تاريخه؛ الحى العريق الذى بدأت قصته منذ العهد المملوكى، وأحبه السلطان الناصر، غير أن أوجه عمائره المقامة على أنقاض قصور صفوة الأسرة العلوية تحمل بين طياتها العديد من الحكايات التى لا تنفصل عن تاريخها. انعزال منطقة جاردن سيتى وخصوصية حدها الطبيعى على ضفاف النيل كان عاملًا رئيسًا جعل منها مقصدًا لأبناء الطبقة الثرية بالمجتمع؛ فظلت منذ بداية إنشائها مقصورا على ساكنى القصور إلى جانب أثرياء الطائفة اليهودية المصرية والأجانب ومن تمصر منهم. تمتزج فى واجهات عمائر جاردن سيتى الأمكنة مع الشخوص الصانعة للأحداث؛ كأن حكايات عمرانها زمان متجدد وتاريخ قائم بحد ذاته؛ فالصورة النهائية التى تظهر عليها جاردن سيتى الآن، نتاج تراكمات تاريخها الذى يحكى جانبًا من تطور القاهرة عمرانيًا وجغرافيًا. بستان الخشاب.. ممشى لموكب السلطان الناصر معالم جاردن سيتى بشكلها اللافت بدأت فى العصر المملوكى؛ إذ كانت تقع على ساحل نهر النيل جهة قصر العينى، ضمن جملة أراضى «بستان الخشاب»، الذى كان يمتد من شارع المبتديان ومضرب النشاب والبرجاس إلى النيل من الشمال، ويحدها من الغرب نهر النيل، ومن الجنوب مستشفى قصر العينى، ومن الشرق شارع الخليج «بورسعيد حاليًا». كان البستان ينقسم إلى قسمين، الشرقى منهما يسمى ب«المريس» يقع بين شارعى المنيرة وبور سعيد، أما الغربى المسمى ب« الميدان الناصرى»- يقع مكانه حى جاردن سيتى الحالى- فكان بين شارعى المنيرة وشاطئ النيل، الذى أنشأه السلطان الناصر محمد بن قلاوون عام 1314 وغرست فيه الأشجار وأحيط بالبساتين والمنتزهات حتى أصبح أحد أجمل ميادين القاهرة؛ لذا كان السلطان يركب إليه من القلعة كل سبت فى موكب سلطانى. مقر صفوة الأسرة العلوية وقصرها العالى بصعود الأسرة العلوية إلى حكم مصر استغلت الموقع المتميز ل«بستان الخشاب» كمقر للحكم؛ فكان أول ما تم تطويره فى المنطقة هو القصر العالى، بواسطة إبراهيم باشا، ابن محمد على باشا، عام 1820، ليكون مقرًا له ولعائلته وحاشيته؛ على ضفاف النيل أمام جزيرة الروضة كنقطة جذب بصرية للمقر الجديد للحكم. اتسم القصر العالى بملامح معمارية خلابة تجمع بين طرز النهضة المستحدث والباروك وبعض الملامح الزخرفية الإسلامية. الخديو إسماعيل وتشكل الملامح الحقيقية للمنطقة اعتبارًا من حكم الخديو إسماعيل تشكلت الملامح الحقيقية لمنطقة جاردن سيتى؛ بعدما فتح المجال لحركة معمارية واسعة، لينفتح الباب على مصراعيه لبناء قصور صفوة الأسرة العلوية بها على امتداد كورنيش النيل، كان أشهرها قصر الدوبارة، وقصر فخرى باشا، وقصر الأميرة شويكار بحى جاردن سيتى، وجميعها تعكس خليطًا من طرز فريدة من العمارة الإحيائية لفنون النهضة الأوروبية، الممزوجة بمفردات العمارة الإسلامية. قصور جاردن سيتى التاريخية انعزال منطقة جاردن سيتى وخصوصية حدها الطبيعى جعل منها مقصدًا للطبقة الثرية بالمجتمع، ما برز فى عهد الأسرة العلوية، إذ ضمت عددًا من القصور الملكية مثل القصر العالى، وسراى الإسماعيلية الصغرى، وسراى زينب هانم ابنة إسماعيل، وسراى الأميرة نعمة الله توفيق (التى تحولت لمبنى وزارة الخارجية لاحقًا)، وقصر الدوبارة (قصر الأميرة أمينة هانم إلهامى التى لقبت بأم المحسنين)، وقصر قازدوغلى. مركز جذب الأعيان ودائرة صناع القرار نشأ حى جاردن سيتى كمركز حيوى جديد يتشكل فيه حكام مصر، من أبناء وأحفاد إبراهيم باشا؛ مما جعله يتحول إلى نقطة جذب للأعيان والإقطاعيين والسفراء والقناصل والقريبين من دائرة صناع القرار، وأسهم فى تطوير منطقة وسط البلد، المعروفة بالقاهرة الخديوية. وفى بدايات القرن العشرين بدأ ظهور الفنادق والعمارات؛ إذ شيدت فنادق على الطراز الإنجليزى والإيطالى، أهمها سميراميس القديم، الذى يقع بجوار قصر الدوبارة، ويعد أول فندق على ضفاف النيل بالقاهرة؛ إذ كانت أرضه مملوكة للمستثمر اليهودى، موسى قطاوى ثم باعها عام 1905 لرجل الفنادق السويسرى فرانس جوزيف بوشر. تغير عمران جاردن سيتى بعد ثورة يوليو شهد عمران جاردن سيتى بعض التغيرات فى أعقاب ثورة 1952؛ إذ تعرضت بعض القصور والفيلات القديمة للهدم أو التعديل لاستخدامات جديدة، من بينها فيلا النحاس باشا الواقعة فى 9 شارع أحمد ماهر، وتحولت إلى مبنى إدارى مكون من 12 طابقا ومقر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وسراى عدلى باشا يكن «شريف صبرى» عام 1970 وأقيم محلها فندق «فور سيزون» عام 2003، وقصر محمد عبد الخالق باشا الذى هدم بعد قرار تأميمه عام 1961 وأقيم على أنقاضه عمارة سكنية والبنك العربى الأفريقى فى الستينيات. توارى القصور وظهور العمارات السكنية مع تعاقب التطورات العمرانية والجغرافية والاجتماعية؛ توارت قصور وفيلات جاردن سيتى، وظهرت العمارات الشاهقة كعمارة بول رستم، وعمارة ثابت ثابت (بلمونت)، وعمارتى مترى، وعمارات الشركة المصرية للمبانى الحديثة، لكن جاردن سيتى ظلت محتفظة بطابعها الطبقى واقتصارها على أثرياء مصر. إلى هنا تنتهى حلقتنا، وفى الحلقات القادمة نتناول حكايات شوارع جاردن سيتى، وأبرز من عاشوا بها.