"يبدأ الشارع أمام قوس من ماء وخضرة مزدحم براغبي الأنس والفرفشة من الأثرياء، ويشكل نقطة نهاية جزيرة الروضة منتج الملك الصالح نجم الدين أيوب وزوجته الملكة شجرة الدر، يتجول الشارع بارتياح في قلب العالم الأسطوري لقصور أسرة محمد علي حتى يصل لنهايته على مشارف شارع قصر العيني". هكذا يصف الكاتب حمدي أبو جليل في كتابه "القاهرة شوارع وحكايات" شارع عائشة التيمورية في جاردن سيتي. يقول الكاتب: الشارع يقع في قلب حي جاردن سيتي درة أحياء القاهرة الأوروبية وموطن قصورها وأعرق أسرها وأرفع زائريها من الدول الأوروبية، ولجاردن سيتي، حكاية تروى، فالمكان رحب تختلط فيه برك ماء شاسعة تنبت على ضفافها زهور برية وأشجار عملاقة، أهمها أشجار الكافور التي مازالت موجودة حتى الآن، وربما يرجع اسم الحي "جاردن سيتي" وهو ترجمة للتعبير الانجليزي "المدينة الحديقة" يرجع لنهوض الحي من تحت عباءة مزهرة وأشجار تظلل المكان. الشارع المحرم شارع عائشة التيمورية شارع ملكي منذ البداية فقد كان مجرد ممر تظلله الأشجار الكثيفة بين قصور أمراء أسرة محمد علي وأولها القصر العالي الذي بناه إبراهيم باشا بن محمد علي، وكان يمتد من نهر النيل إلى شارع قصر العيني أي بطول المساحة التي يحتلها الشارع الآن. الشارع في بدايته وعلى مدى عقود كان محرماً مع باقي حي "جاردن سيتي" على أبناء الشعب المصري، فقد كان مغلقاً تماماً على أمراء الأسرة المالكة، والمحظوظين أو المقربين من الرعايا الأوروبيين خصوصاً الإنجليز وعرف أولاً باسم "الوالدة باشا" أم الخديو إسماعيل وزوجة إبراهيم باشا وبانية جامع الرفاعي وساكنة القصر العالي، الذي كان يصنع حافة ملكية للشارع، وهي بالطبع غير الوالدة باشا أم عباس حلمي الثاني التي كانت تلقب بأم المحسنين وظل اسمها يتصدر شارعاً قريباً حتى خلعته ثورة يوليو وأطلقت عليه اسم قارة أمريكا اللاتينية. أم إسماعيل أيضاً لم يعمر اسمها طويلاً في المنطقة فقد أطيح به من القصر والشارع، فعندما توفى الخديو إسماعيل عام 1895 بالأستانة، ونقل جثمانه إلى القاهرة كشفت وصيته أنه باع القصر العالي الذي كانت تسكنه والدته لزوجاته الثلاث، وكان هذا سبباً لخلاف كبير بين ورثته، اما الشارع فقد ذهب بعدها لاسم عائشة التيمورية. عائشة التيمورية صاحبة الشارع هي ابنة أسرة ارستقراطية، عندما ولدت عام 1840 اتفق أبوها وأمها كما يقول الكاتب الصحفي كامل زهيري على منادتها باسمين، الأم اختارت اسم "عصمت"، أما الأب فقد اختار لها اسم "عائشة" وعرفت في البيت باسم "عصمت". إسماعيل باشا تيمور والد عائشة كان الرئيس العام لديوان الخديوي في عهد الخديو عباس حلمي الثاني. وشغل عديد من المناصب السياسية المرموقة في عهد محمد علي والخديو إسماعيل. العائلة التيمورية استقرت كما قال كامل زهيري بقصر كبير بدرب سعادة في باب الخلق، وكانت هذه المنطقة غربي سور القاهرة الفاطمية وبالقرب من الخليج المصري، وبدأ زحف القصور إليها في عهد محمد علي، ثم امتلأت في عهد الخديو إساعيل بالقصور المطلة على الخليج والحدائق وعندما ردم الخليج المصري الذي كان مكان شارع بور سعيد اختفى قصر العائلة التيمورية من درب سعادة، ومكانه الآن عديد من محلات البقالة والتوابل. أتى والد عائشة التيمورية بأستاذين في البيت لتعليمها واحد لتحفيظها القرآن وفنون الخط العربي، وآخر لتعليمها النحو والصرف واللغة الفارسية. انشغلت عائشة على عكس بنات جيلها بكنوز مكتبة والدها وانفردت بالبحث عن شئ آخر غير الثرثرة والنميمة حتى امتلكت العربية والتركية والفارسية وشجعها أبوها على مواصلة الشعر وامتلاك الوزن والقافية فكتبت الشعر بالعربية والتركية والفارسية ومن أبرز أعمالها ديوان "حلية الطراز". عائشة التيمورية هي الشقيقة الكبرى لأحمد باشا تيمور المعروف بتحقيقاته الإسلامية والتاريخية وبمكتبته الهائلة التي أهداها لدار الكتب المصرية. كما أنها عمة الأديبين محمد تيمور ومحمود تيمور. وقد تزوجت توفيق الإسلامبولي وسافرت معه إلى الأستانة ثم عادت لمصر بعد وفاته وتوفيت عام 1902. الشارع يبدأ ببرج ضخم حديث البناء يواجه فندق الميريديان الذي يقع في قلب نهر النيل، ويكمل قوس جزيرة الروضة ويجاوره عبر ممر قصير حديقة ضيقة وبديعة تملكها دار حضانة سفارة اليونان التي تمتلك بالشارع قصراً بديعاً يجري ترميمه الآن، ويبدو رغم فخامته متواضعاً أمام نصاعة واتساع قصر شديد البياض داخله مقر السفارة الاندونيسية، الذي تجاور قسم شرطة المنيل الذي ينشر رجاله بطول الشارع ويضطر رواده إلى الانضباط بل والإسراع بمغادرته وذلك للحفاظ على أمن سفاراته ورعاياه الأجانب. ويقول أبو جليل: قد وبخني أحد رجال القسم وكاد يقبض علي عندما اتكأت كالعادة لتأمل جمال مبنى السفارة الاندوتيسية فانطلقت مذعوراً لأجد نفسي أمام بنك التمويل المصري السعودي في نهاية الشارع!. حي جاردن سيتي أول من اكتشف هذا الحي، وطوره نسبياً، السلطان الناصر محمد بن قلاوون "1285 1341" تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية، زرع فيه المزيد من الزهور والأشجار وشق الطرق وسط المياه وشيد الحدائق والمتنزهات، وموقع الحي حالياً، هو الموقع نفسه الذي شيد فيه السلطان قلاوون حدائق تعرف باسم "بساتين الخشاب". عندما حكم الخديوي إسماعيل البلاد حول القاهرة إلى مدينة راقية تحاكي في جمالياتها وحضارتها مدن الغرب كباريس ولندن وإيطاليا وقتذاك، واهتم بالمظهر المعماري الفني الذي ميز القاهرة عن غيرها من مدن الشرق. فتح الخديوي إسماعيل حركة معمارية واسعة لتشييد قصور فخمة فاخرة على امتداد كورنيش النيل من أشهرها قصر الدوبارة في جاردن سيتي وقصر فخري باشا والأميرة شويكار أيضاً بحي جاردن سيتي، وجميعها تعكس خليطاً من المعمار الإسلامي بالتمازج مع المعمار الباريسي والايطالي وقتذاك، ومازالت هذه القصور وغيرها من ملامح الحي الأرقى جاردن سيتي موجودة، شاهدة على عصر الارستقراطية والنخبة وزمن جميل توارى. وترجع خصوصية جاردن سيتي لخصوصية سكانه، فجميعهم من الطبقة الارستقراطية، طبقة النخبة، كان أبناء معظم الأسر هذه يعرفون بعضهم البعض تربطهم تواصلات اجتماعية بين "الهوانم" وصلات وجلسات في مجالات الاقتصاد والسياسة بين البشوات والبكوات من أهل هذا الحي، الذي فضل ان يتوارى حالياً وراء ما تبقى من أشجار الكافور وحدائق الزهور، التي كانت بذورها تستورد من ايطاليا، مثل "الجارونيا" و"التوليب" الفرنسي و"عصفور الجنة" من النمسا. لا يزيد ارتفاع معظم مساكن جاردن سيتي عن خمسة طوابق، وتقع كل العمارات داخل حديقة صغيرة أو متوسطة محاطة بسور من الحديد الأسود اللامع تتسلل عليه أغصان الياسمين، وتطل من ورائه أشجار الكافور العملاقة التي كانت يصل طولها حتى أسطح هذه البنايات. رمضان في جاردن سيتي له طقوس لا تخلو من الشياكة أطباق كريستال بها الكنافة بالقشدة والقطايف بالمكسرات يحملها الطاهي بنفسه للجيران وسط الدعوات. وكانت الأسر تعتاد في رمضان جلب أحد مقرئي القرآن يومياً للإفطار ثم لأداء الصلاة وتحفيظ القرآن للصغار في الأسرة. اقرأ أيضا الخرنفش .. من صناعة كسوة الكعبة للإهمال الآن