حين يبسّط البعض معادلة التغيير فى مصر ويتصور أن الغالبية الساحقة من الناس مع التغيير فى مقابل قلة قليلة من أصحاب السلطة والثروة الفاسدين، يبتعد كثيراً عن الواقع، وحين يتصور البعض أن مشكلة التغيير هى فقط أو أساسا فى وجود آلة القمع الجهنمية، فإنه أيضا يختزل الأمور ويبسطها لأنها أعقد من ذلك بكثير، فبقاء أى نظام غير ديمقراطى فترات طويلة فى الحكم لا يرجع فقط إلى أنه يمتلك سطوة أمنية، إنما لأن أعداد المستفيدين والمتواطئين معه أكبر من الراغبين فى تغييره. ومن المعروف أن كثيراً من النظم التسلطية استمرت فى الحكم لأسباب كثيرة منها مثلا شرعيتها الاجتماعية أو نزاهة أو كاريزما بعض قادتها كما جرى مثلا مع عبدالناصر، حين قبل عموم الناس غياب الديمقراطية لأن النظام عوضهم عنها بمجموعة من السياسات الاجتماعية التى جعلتهم يتقبلون الوضع القائم، أما فى العصر الحالى فالسؤال الذى كثيرا ما يغيب عن قادة التغيير يكمن فى أسباب بقاء نظام محدود الكفاءة لا يقدم (إلا فيما ندر) أى نماذج ملهمة أو نزيهة أو حتى كفئة أو مهنية لعموم الناس، فغاب عن مصر «الصنايعية» والحرفيون المهرة، وتراجعت كفاءة المهنيين من أطباء ومهندسين ورجال قانون وصحفيين وضباط وغيرهم. ومع ذلك بدا هذا العهد هو الأطول فى كل عهود مصر بعد محمد على، الذى أسس إمبراطورية كبرى فى حين فشل الحكم الحالى أن يكون ملهما فى أى مكان سواء داخل حدوده أو خارجها، وظلت قبضته الأمنية أكثر رخاوة من العهود السابقة، ومع ذلك استمر كل هذا الوقت الطويل واحتفظ بنسبة معقولة من الأنصار دعمت بقاءه الطويل فى الحكم. والحقيقة أن سر بقاء الحكم ثلاثين عاما يكمن فى عدم تدخله لحسم أى مشكلة مهما كانت جسامتها حتى لا يبدو أنه طرف، فيزعل البعض ويفرح البعض الآخر، إنما يترك أطرافها يستنزفون بعضهم حتى الإنهاك التام فيتحقق له «الاستقرار» المنشود، أو يتدخل بمهارة فى لحظة الخطر ليس من أجل إرساء قيمة أو مبدأ، إنما للحفاظ على كرسى الحكم. ونجح عبر هذه الطريقة فى أن يخلق أعداداً كبيرة من المتواطئين مع الوضع القائم، وليس بالضرورة الفاسدين أو المستفيدين منه، وكانت النتيجة هى انهيارات جسيمة فى أداء الدولة والمؤسسات العامة والخاصة، فالمتواطئون مع الوضع القائم هم الذين اختاروا منذ البداية أن يحسبوا كل تصرف على ضوء المنفعة التى يحصلون عليها، فإذا كانوا من بين غير السياسيين المحترفين، فهم سيحسبون أولا حسابات لقمة العيش، أما إذا كانوا من بين السياسيين المحترفين فسيحسبون عدد المرات التى سيظهرون فيها أمام الفضائيات أو يدلون فيها بتصريحات للصحف. وأصبحت هناك مساحة واسعة للتعايش مع الفساد بصوره المختلفة، فغياب نظام لمحاسبة الكبار طبق أيضا على الصغار، وأصبحت هناك استفادة مجتمعية من حالة البلطجة والاستسهال السائدة داخل النظام، وصار من الممكن أن تكون فاسدا ولا تسجن أو أن تكون نزيها وتترك لقدرك أو «لخيبتك»، وبينهما ظهر المستفيدون أو المتواطئون مع هذه الحالة، من الصامتين أو الذين دخلوا فى اتفاق ضمنى مع الفاسدين قائم على «شيلنى وأشيلك»، فيتركونهم يسرقون فى مقابل أن يقوموا بأعمال أخرى غير عملهم الأصلى، ووجدوا فى غياب المحاسبة والتقاليد المهنية فرصة فى عدم إتقان أى شىء، وعرف المجتمع المصرى كلمات جديدة رديئة وذات دلالة مثل: «سبوبة» و«نحتايه» وغيرهما فى اعتراف صريح بأن العمل لم يعد مرادفاً لأى قيمة حقيقية. فالاستسهال والإهمال الجسيم وعدم الجدية وغياب المهنية هى كلها قيم أنصار الوضع القائم، وليس فقط اللصوص والفاسدين كما كنا نردد حين كنا طلابا فى الجامعة فى بداية الثمانينيات، فقد بدا واضحا أننا انتقلنا من النظام الفاسد إلى المنظومة الفاسدة إلى المجتمع المتواطئ مع الفساد. وأن قوة النظام الحالى فى ضعفه، وفى المساحات الواسعة التى يعطيها للجميع لكى يدوروا فى طاحونته دون أن يعطيهم أى قدرة على إنجاز أى شىء حقيقى على الأرض سواء من كانوا داخل النظام أو خارجه. فما زلت أقارن أحاديث السياسيين حاليا بأحاديثنا حين كنا طلابا فى جامعة القاهرة منذ ثلاثين عاما، فالسؤال الأول الذى تسمعه الآن هو: هل «شوفتنى» فى التليفزيون؟، أو هل قرأت ماكتبت؟ وهى كلها ظواهر لم نعرفها فى الماضى فلم يكن هناك لا فضائيات ولا أحاديث ولا تصريحات صحفية. أذكر أن أول عمل سياسى قمت به كان فى عام 1979 حين وضعنا مجموعة ملصقات داخل جدران جامعة القاهرة كتب عليها «فلسطين عربية» واختفينا جميعا خارج الجامعة لأن قبضة الأمن كانت قوية ولم يكن هناك أى فضائيات لنتحدث إليها عن «بطولاتنا»، وبقينا خارج منازلنا لأيام قبل أن نعود إلى الجامعة مرة أخرى. إن النجاح الذى حققه الحكم الحالى يكمن فى أنه جعل بعض المنادين بالتغيير كلاما مستفيدين من عدم التغيير، وكثير ممن يتحدثون بصوت الشعب من الإعلاميين هم متاجرون به لأنهم يعرفون أن هذا هو طريق الشعبية وبالتالى البيزنس والإعلانات، فراجت ظاهرة «الطبطبة» على أخطاء الجميع الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين، وهى كلها أمور جعلت أنصار الوضع القائم أكبر من دعاة تغييره، حتى لو كان أغلبهم ليسوا من الفاسدين إنما فقط من المتواطئين معه. إن مصر يمكن أن تتغير بل لا بد أن تتغير، ولكن يجب أن يعى دعاة التغيير الحقيقيون أن المجتمع، وليس فقط النظام، يحتاج أيضا إلى إصلاح، وأن هذا الإصلاح - وليس الثورة- هو طريق هذا التغيير ليس لأن الأخيرة أمر سيئ فى ذاتها ولكن لأنها أمر استثنائى فى تاريخ كل المجتمعات، وفى الحالة المصرية فإن الجديد لن يكون منبت الصلة تماما بالقديم إنما سيصلح مؤسسات الدولة ويعيد لها كفاءتها ويغير من قواعد اللعبة السياسية، ويعتبر أن المجتمع الديمقراطى سيحتاج إلى نشطاء جدد حريصين على أن ينموا مهارات أخرى غير التظاهر، تمكنهم من الإنتاج والابتكار والعمل، فمصر لكى تتغير بحاجة لإقناع المتواطئين مع الوضع الحالى بأن المستقبل سيفتح لهم لقمة عيش كريمة، وأن العمل، وليس الفهلوة، هو خير ضامن لمستقبلهم، وأن الرهان على نظام حكم كفء وديمقراطى خير ضامن لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم. [email protected]