كورونا.. والتعليم العالى «تكافؤ فرص الإتاحة»

فى مقالى السابق، بجريدة المصرى اليوم، أشرت إلى أن جائحة الكورونا ستساهم فى البحث عن حلول غير تقليدية تعتمد على أساليب تدريس وتعلم أكثر حداثة، وتكنولوچيات معلوماتية أكثر تطورآ من أجل تحقيق الهدف المُزدوج «لإتاحة وجودة» التعليم العالى، وأن تكدُس الطلاب بالجامعات الحكومية بشكل عام، كأحد أسباب تراجع معدلات الجودة، لا يعود بالضرورة إلى التوسع فى معدلات الالتحاق بالتعليم العالى، بل يرجع بالأساس إلى نقص الطاقة الاستيعابية، (أى القصور فى البنية التحتية التعليمية والبحثية، ونقص الاستثمار فى التعليم العالى، وعدم كفاية الكوادر البشرية)، التى تتطلبها الزيادة المضطردة فى النمو السكانى والمجتمع الشبابى المصرى، والطفرة الكمية التى تشهدها الألفية الثالثة فى الطلب على خدمات التعليم العالى، بفعل الثورة المعرفية والتكنولوچية الراهنة.
بَيد أن الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومبادرات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، وتقارير الاتحاد الدولى للجامعات، وأهداف التنمية المستدامة (2015- 2030)، تؤكد أن مبدأ إتاحة التعليم العالى لابد أن يرتبط بتحقق عدالته، وتكافؤ فرص تقديم خدماته للجميع، وتأكيد دوره فى تحقيق استراتيجية للتعلم مدى الحياة، من أجل أن يؤتى ثٍمارة المعرفية والتنموية المرغوبة. ومن ثم فإن الهدف المزدوج «للإتاحة مع الجودة» لابد وأن يضاف إليه «عدالة» التعليم العالى.
وتفيد التجارب الدولية عن تطبيق التعليم عن بُعد والتعلم الإلكترونى من أجل زيادة معدلات إتاحة التعليم العالى، بأن نحو (30%) من الطلاب بالولايات المتحدة الأمريكية يحصلون على أحد المقررات على الأقل بأسلوب التعليم عن بُعد، وأن معدلات النمو السنوى للملتحقين بمقررات التعليم عن بعد تقدر بنحو (6.1%) فى المتوسط. كما أشارت دراسات ميدانية لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية أجرتها على (34) جامعة فى (15) دولة بقارة أمريكا اللاتينية، أن نحو (68%) من جامعات العينة استخدمت منهجية التعليم الإلكترونى لدعم طلاب المناطق الريفية، وأن (53%) من الجامعات خصصت برامجها للتعلُم عن بُعد لتدريب النساء، كما شاركت شرائح المجتمع ذات الدخل المنخفض فى البرامج المقدمة من نحو (50%) جامعة من العينة.
ومن الملاحَظ أيضًا أن أسلوب التعلُم عن بُعد يمثل أكثر الوسائل استخدامًا فى مجال التعلُم مدى الحياة وإعادة تأهيل الخريجين. وهو ما ينطبق على كل من الصين، وإندونيسيا، وكوريا الجنوبية، وباكستان، والفلبين، وتايلاند. كما تُمثل الجامعات المفتوحة (أو مراكز التعليم المفتوح) فى تايلاند الوسيلة الرئيسية المستخدمة فى مقابلة الزيادة فى الطلب على خدمات التعليم العالى، وعلى وجه الخصوص فى المجتمعات الأقل ثراءً بالمناطق الريفية.
وأخيرا تفيد الإحصاءات المُعدة من قبِل البنك الدولى ومنظمة اليونسكو بأن تكلفة الطالب السنوية تنخفض بشكل كبير عند الانتقال من التعليم التقليدى وجهًا لوجه إلى التعلُم عن بُعد باعتماد أساليب التعلُم الإلكترونى. وقد نتَج عن ذلك أن نسبة تكلفة الطالب فى التعليم عن بُعد إلى تكلفته فى التعليم التقليدى المنتظم، تقدر بنحو 14 فى المائة فى تايلاند، ونحو 22 فى المائة فى باكستان، وما يُقارب 50 فى المائة فى الصين.
هذا وقد شَهِدت منظومة التعليم العالى المصرى عددا من المبادرات الداعمة لتنمية تكنولوچيات التدريس والتعلُم عن بُعد، من أجل تعظيم معدلات الإتاحة وتقليل الكثافة العددية بالكليات العامة، حيث أُنشئ مركز لتطوير التعليم والتعلم بالمجلس الأعلى للجامعات فى بداية الألفية الثالثة، يَقُوم بالإشراف على مراكز متخصصة بالجامعات الحكومية بهدف تطوير برامج ومقررات بأسلوب التعلم الإلكترونى من أجل زيادة معدلات الإتاحة البديلة للتعليم النظامى. وقد واكب هذا التوجه إنشاء الجامعة المصرية للتعلم الإلكترونى، وتنفيذ مشروعات مشتركة بين كليات الحاسبات والمعلومات والهندسة ومنظمة اليونسكو لتطوير مقررات بأستخدام نظم إدارة التعلم الإلكترونى.كما تَعتمد بعض البرامج المشتركة مع الجامعات الأجنبية على التعلم الإلكترونى عن بعد، والتعلم عبر الحدود كمنهجيات تعليمية. بيد أن هذه المشروعات مثلت جهودآ منفردة غير مكتملة لم تتم فى إطار استراتيچية وطنية شاملة لدعم الإتاحة وتحقيق عدالة وديمقراطية التعليم العالى المصرى.
بناء على ما سبق، فإنة يمكن أن تساهم «جائحة الكورونا» وانعكاساتها الصحية والاقتصادية والتعليمية، فى صياغة «خريطة طريق» رامية إلى إعادة هيكلة منظومة التعليم العالى المصرى من أجل تحقيق أهداف «الجودة والإتاحة والعدالة»، بالاعتماد على أساليب التدريس والتعلم المتقدمة وتكنولوچيا الاتصالات والمعلومات الحديثة بالألفية الثالثة، فى ظل صعوبة تحقيق هذا التوجة فى ظل نقص الطاقة الاستيعابية المطلوبة لتحقيق التعلم المنتظم وجها لوجه، وهو ما سأناقشه فى مقال قادم.