لا أحد من ذوى الفكر و رجال السياسة فى مصر إلا و يتعجب كثيراً من تعنت المجلس العسكرى فى الإصرار على اجراء الانتخابات البرلمانية فى شهر سبتمبر , و لأن الجميع اتفقوا فى الرأى على وجوب تأجيلها فيما عدا جماعة الاخوان المسلمين الفصيل الوحيد المستعد بكوادره و مرشحيه و أصواته بل و حتى مندوبى المرشحين ! فقد بدأ الجميع يشك فى وجود صفقة بين المجلس العسكرى و جماعة الاخوان , و راح البعض يتحدث عن أبعاد هذه الصفقه , يصف خططتها و طريقتها فى التعامل مع الشارعين الاخوانى و اللااخوانى. نجحت جمعة الغضب الثانية دون وجود للمشاركة الاخوانية , و بعد رفض من الجماعة لهذه الجمعة من الأساس و اعتبارها "جمعة الوقيعة" بين الجيش و الشعب .. فكل طوائف الشعب شاركت فيما عدا الاخوان ... فمن اذن الذى يقوم بالوقيعة ؟ أو من اذاً الذى يشق وحدة صف الشعب ؟ لعله الشعب هو من يشق صف نفسه ؟ ! أما جماعة الاخوان فهى الحارس الأمين على هذه الوحدة ! كان المُفترض أن توجه تظاهرات جمعة الغضب ضد التصرفات المغلوطة , و القوانين المتهالكة , و التخاذل الواضح من المجلس العسكرى تجاه التعامل مع مبارك و رموز نظامه.و هذا ما كان فعلاً , و لكن ليس بقوة. لأن قيادات الاخوان و هم فى مكاتبهم استطاعوا أن يقوموا ما لم نستطع أن نقوم به نحن فى كل ميادين التحرير فى مصر. لقد استطاعوا أن يحولوا أغلب شعارات جمعة الغضب الثانية من المطالبة بدستور جديد , تأجيل موعد الانتخابات , تشكيل مجلس رئاسى ( و ان لم يكن مطلب جماهيرى ) . استطاعوا أن يحولوا مسار الجمعة كلها, و أن يغيروا اتجاه مئات آلاف المتظاهرين لتتحول الجمعة إلى جمعة ضد الاخوان ! و ذهب الجميع يتحدث طوال اليوم ذاك عن عدم مشاركة الاخوان , وعن القوى الليبرالية , و عن الكفار و الملاحدة الذين دعوا لمظاهرات جمعة الغضب الثانية بعد صلاة الجمعة ! و بعد هذا ذهبت كل الأقلام و الألسن تتحدث عن استقالة مدير تحرير موقع "اخوان أون لاين" , وعن الصفقة المزعومة , و عن عدم وجود ديموقراطية داخل الجماعة باستبعاد شبابها الذين شاركوا فى المظاهرات ! و عن وجود نقص فى شعبية الجماعة بعد تصريحات "الفلوطة" , أو شق فى الصف الداخلى بسبب تصريحات"أبو الفتوح" و بدأ الجميع يهلل لهذا الشق الوهمى و كأنه مؤشر لبداية النهاية ! فهل الاخوان بهذه الغباء السياسى لكى يسمحوا أن تتحول المظاهرات ضدهم ؟ هل هم بهذا القدر من الغباء ليسمحوا لميادين التحرير فى مصر أن تمتلأ بكل من هو ليس اخوانى ؟ ان من يعرف تاريخ و فكر الجماعة يُدرك جيداً أنها أذكى من ذلك بكثير جداً. فما الأمر اذن ؟ الأمر و ببساطة هو كما يعلم الجميع الشعبية الواسعة للجماعة فى الشارع المصرى , و ثقتهم القوية فى أنفسهم و فى مؤيديهم. هذه الثقة زادت عندهم إلى الحد الذى جعلهم يقفون ضد كل الآراء ب"لا" فى التعديلات الدستورية , و استخدموا هم طريقتهم ليحصلوا على "نعم" بنسبة 77 % و التى اعتبرها اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس العسكري و صاحب التحية العسكرية العاطفية المشهورة لشهداء الثورة نسبة تأييد للمجلس العسكرى ! فهل كانت ال 77 % لتؤيد المجلس العسكرى ؟ أم لتشكر ممدوح شاهين على تحيته الواجبة للشهداء ( و ان كنت أشك فى صدق مشاعره) ؟ أم لتؤيد التعديلات الدستورية ؟ أم لتدعو للاستقرار ؟ أم لأن هذا ما أرادته جماعة الاخوان فكان لها ؟ أتحدى أن أجد فى ذهن أى مواطن اجابة واحدة محددة على هذه الأسئلة .. ! تلك الثقة الزائدة للجماعة فى نفسها جعلتها تقبل أن تتحمل على كاهلها هى مظاهرات جمعة الغضب الثانية فى مقابل واحد , و هو اجراء الانتخابات فى موعدها . و هذا بالفعل ما تحقق لها فى نفس يوم الجمعة بتأكيد المجلس العسكرى اجراء الانتخابات فى سبتمبر. اذن ... كنا نحن فى الشوارع و الميادين من الواحدة ظهراً و حتى السادسة , وسط أجواء تنبأت هيئة الارصاد بأن تكون درجة الحرارة فيها مرتفعة جداً مع ان الجو كان معتدلاً ! وسط انسحاب أمنى من الجيش يشبه لأقصى حد انسحاب الشرطة يوم جمعة الغضب الأولى ! وسط مخاوف من ظهور بلطجية جُدد لم و لن تراهم الا حينما تقف فى مظاهرة ضد نظام حاكم على رأسه مباركٌ أو مشيرٌ ! وقفنا جميعاً , بينما قبعت الجماعة فى أوكارها هانئة مستريحة , واثقة فى نفسها , و كان لها ما أرادت !!! لم يكن بجديد ما خرج به علينا المرشد العام اليوم ليؤكد أن الجماعة لم تعقد أى صفقات مع المجلس العسكرى, و هو ما نفاه المجلس العسكرى أيضاً , و لعل المرشد لا يعى تاريخ الجماعة جيداً و كم الصفقات السياسية التى عقدتها مع الأنظمة الحاكمة مسبقاً و أخرها فى العلن فى انتخابات 2005 , و لأننا لسنا هنا محط دراسة لصفقات الاخوان السابقة , فسأكتفى بمحاولة تفسير موقف الطرفين ( المجلس العسكرى و الاخوان ) من جمعة الغضب الثانية. لأننى - و بطبعى حسن النية - فسأفترض فعلاً عدم وجود أى صفقة بين المجلس و الجماعة و أحاول تفسير موقف كل منهما ببراءة الأطفال: المجلس : يريد تسليم البلاد لسلطة مدنية مُنتخبة بجدول زمنى يتنهى آخر العام نفسه 2011 , و لا يريد أن يبقى فى السلطة أكثر من ذلك , ليس لعدم رغبته فيها , و لكن تحاشياً لصدام مع الشعب اذا لم تنل تصرفات المجلس رضا الشعب فتكون نتائج ذلك وخيمة على القطر المصرى بأكمله , و قد تؤدى لدخول مُحتل جديد و هو ما قد يحدث على بعد كيلومترات مننا فى اتجاه الغرب. الجماعة: لا ترى أمامها أى فصيل قوى , فأصبحت ترى فى نفسها وكيل الشارع المصرى بأجمعه ! هى الوحيدة المستعدة لخوض الانتخابات و سكتسحها بجدارة حتى و ان لم تنافس على الأغلبية , فهؤلاء صرحوا انهم لا يسعون للرئاسة , و لكن مع وجود برلمان قوى فى نظام ديموقراطى رئاسياً كان أو برلمانى يُصبح كرسى عضو مجلس الشعب أخطر بكثير جداً من كرسى الرئيس القادم نفسه ! اذن و بالنية الحسنة فأهداف المجلس و الجماعة متوافقة , اذن فما بينهم قد يكون توافق فكرى سياسى و ليس مؤامرة ! و ستنتهى بهما الاتثنان إلى مجلس شعب هو فى الوقع غير مُعبر عن كل أطياف الشعب , لكنه في غزوة صناديق جديدة قد يُظن معبراً عن الأغلبية , ثم بانتخابات رئاسة أرى بوجهة نظرى الضيقة و التى أتمنى أن تكون مغايرة للحقيقة أن من سيفوز بها هو من ستقول عليه الجماعة "نعم". فحتى بعد استبعاد فكرة المؤامرة و الصفقة بين الاخوان و المجلس , تظل الكرة فى ملعب المجلس و الجماعة , و كأننا كنا هباء يوم الجمعة , لأن المظاهرات لم تكن "حاشدة" كما قال ممدوح شاهين ! فهل يجب السكوت و الانتظار ؟ ما هو رد الفعل الصحيح تجاه ذلك ؟ كيف نُجبر المجلس العسكرى على تأجيل الانتخابات لحين فطام الأحزاب الوليدة من رحم الثورة ؟ كيف نحمى هذه الأحزاب من فكر نازى جديد يستبعد كل من لا يتبعه , و يسعى لنقاء عرقى اسمه الاخوان المسلمين ؟ أنا لا أعرف الاجابة عن كل هذه الأسئله , لكن ما أعرفه و أدركه جيداً انه اذا تم اجراء الانتخابات فى وقتها , فنحن على موعد مع ثورة شعبية جديدة ربما تكون أسرع و أخطر بكثير جداً من الثورة الاولى. [email protected]