يمر العمر ولا أنسى هذه الذكرى، التى لا أدرى حتى اليوم هل كانت تجلّيات أم مكاشفة أم تهيؤات. كنتُ قد صرتُ - مع مرور العمر - أشعر بالانزعاج كلما اضطرتنى الظروف إلى المبيت بمدينة غريبة. لذلك يصير همّى أن أبحث عن أقرب حديقة لأشعر بألفة الأشياء الحبيبة التى اعتدتها. أبحث عن الشجر والزهور، والقمر والنجوم، فيزول إحساسى بالغربة ويتبدد شعورى بالاختناق. هذه الليلة وصلتُ الفندق متأخراً، وبمجرد دخولى الغرفة شعرتُ بثقل فى قلبى وغربة فى روحى. كان الجو شتاءً والرياح الباردة تقطعُ المدينة جيئةً وذهابا، وازداد شعورى بالغربة، فخرجت من الغرفة وهمت على وجهى فى الشوارع الخالية أبحث عن أقرب حديقة. وفجأة شاهدت حديقة صامتة يلفها الظلام. انكمشت داخل البالطو الأسود الثقيل حتى أصبحت قطعة من الليل. كان الندى يغلف الهواء بغلالة من حزن شفيف. والأشجار تتهامس كأشباح فى الظلام. جلست على مقعد حجرى وقد بدأ الحزن ينزاح عن روحى رويدا. وفجأة.. شاهدتُ فى قلب الظلام طفلة صغيرة فى الثالثة، جميلة جدا، ذات ثوب أبيض وضفائر مجدولة، تجلس على الأرجوحة. لم أتصور أن تخرج طفلة وحدها فى هذا الوقت من الليل. والمنطقى أن أجد والدها خلفها يدفع الأرجوحة. لكنّ أحدا لم يكن هناك. وفجأة.. بدأت الصغيرة الجميلة رحلتها مع الأرجوحة. دفعت نفسها للخلف. تطايرت ضفائرها فى الهواء، فصاحت مسرورة، وبقوة الدفع الذاتى بدأت الاندفاع للأمام. لا شك أننى كنت أتوهم أو أن الظلام يمنعنى من الرؤية الواضحة، لأننى شاهدتها تندفع ببطء شديد، وكأنها لقطة سينمائية. وكلما تقدمت راح حجمها يتزايد ببطء، قامتها تطول، جسدها ينمو، وجهها تتضح قسماته. هل كانت أحلام نائم، أم خيالات متوهم، أم تجليات صوفية، أم مكاشفة قلبية، أم أسطورة ميتافيزيقية؟! أنا لا أملك مطلقا أى تفسير. البنت أصبحت أمام عينى فى العاشرة من عمرها، والأرجوحة مازالت تتقدم إلى الأمام. العمر يتزايد، وصدرها يكبر، وخصرها يرهف، وقوامها يلتف، والعمر يتزايد حتى استوت حسناء بارعة الجمال فى العشرين. والأرجوحة تعلو وتعلو، وقلبى يهبط ويهبط، وعقلى يغيب ويغيب. وفجأة.. استوت أمامى امرأة بالغة الجاذبية والأنوثة فى سن الثلاثين. صعدت الأرجوحة فى الهواء قليلا، الحسن استوى وطاب، والجمال يخلب الألباب. ثم بدأت الأرجوحة تتوقف وكأنها تقاوم، ثم بدأت تتراجع إلى الخلف قليلا، وشبه تجاعيد بدأت ترتسم جوار الفم وتحت العينين. الأرجوحة تهبط، والشعر الأبيض يتزايد. تهبط الأرجوحة أكثر، تزيد التجاعيد أكثر وينتشر الشعر الأبيض أكثر، ثم هوت الأرجوحة بعنف، وكأنها كفت عن المقاومة وأطاعت أمها الأرض طاعة نهائية، حتى توقفت تماما، لتهبط عجوزا ذات شعر أبيض، سرعان ما اختفت لتركب الأرجوحة طفلةٌ أخرى وتتكرر الرحلة من جديد. ■ ■ ■ كالمسحور، رحت أخوض فى قلب الليل مقترباً من الأرجوحة، حتى أصبحت ملاصقاً لها، فإذا بها خاوية تماما. اختفت الطفلة واختفت العجوز. لكن الأرجوحة ظلت تلف وتلف، وتدور وتدور. [email protected]