هكذا تقول العرب من قديم الزمان، فإذا كان انفصال جنوب السودان حاصلاً لا محالة، فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان، وليرحم شمالنا جنوبنا، وليرحم جنوبنا شمالنا، فإن بعد العسر يسرا، وبعد الانفصال وحدة، ولا يعرف جنة الوحدة إلا من جرَّب نار الانفصال.. تسلم يا سودان. الحادبون على وحدة السودان فى مصر يرون أنه إذا كان تقرير المصير حقاً ملزماً، وأجمعت عليه كل ألون الطيف السودانى وتراضى عليه الطرفان فى نيفاشا وماشاكوس (مصر شاركت فى نيفاشا فقط) فإن تاريخ التاسع من يناير (يوم الاستفتاء) ليس نهاية المطاف وحدوياً، فالانفصال وإن كان موقعه من الإعراب مثل أبغض الحلال، فإنه ليس حراماً.. لم يصل الطرفان إلى البينونة الكبرى، لايزال الطرفان فى مرحلة البينونة الصغرى التى تعنى إمكانية العودة، أو على الأقل العمل على استقرار البيتين شمالاً وجنوباً بمعونة صادقة من الإخوة فى مصر. وحدة ما تبقى من السودان همٌّ يؤرق المصريين جميعاً. انفصال الجنوب لا مفر منه، ولا تثريب على الجنوبيين أن اختاروا علماً ودولة ونشيداً، ولكن ما ينتظر السودان أخطر، ما ينتظر السودان مزيد من التمزق والتشرذم، «صوملة» لا تُبقى ولا تذر، أخشى أن يدخل مصطلح «السودنة» قائمة المصطلحات البغيضة مثل «الصوملة» و«اللبننة». لا يمارى أحد فى حرص مصر على وحدة السودان وسلامة أراضيه، وستظل تلك الوحدة حلماً مصرياً.. ستنادى مصر بوحدة السودان حتى آخر يوم يسعى فيه الناس على الأرض، والسودان خُلق موحداً منذ الأزل. فى الوقت نفسه فإن احترام إرادة الجنوبيين فى تقرير المصير أو حتى الانفصال من أدبيات السياسة المصرية، مع أمل أن يعود الجنوبيون إلى حضن العاصمة المثلثة.. الخرطوم. يصعب تحميل الشمال أو الجنوب وحدهما مسؤولية الانفصال.. يصعب تحميل جماعة «البشير» وحدهم مسؤولية الانفصال.. يصعب تحميل جماعة «سيلفا» وحدهم وزر الانفصال.. الحكومات المتعاقبة التى ظلمت الجنوب كثيراً تتحمل المسؤولية.. كُلٌّ بقدر، والنظام الحالى يتحمل المسؤولية بقدر ما لم يستطعه من الحفاظ على وحدة السودان طوال ست سنوات كانت جاذبة للوحدة لو خلصت النوايا. المعارضة التى اجتمعت بليل فى العاصمة الإريترية أسمرة فى 1995 لتقرر حق تقرير المصير ليست براء من دم الوحدة.. المعارضة التى تتأهب لهجمة برجماتية على النظام للعمل على إسقاطه عبر تحالف عريض هى انتهازية سياسية تستثمر ظرفاً أليماً يلم بالوطن الرحيب لتنشب أظافرها التى طالت واستطالت هذه الأيام بقيادة الدكتور حسن الترابى لإسقاط النظام الذى كان هو - الترابى - مؤسسه ومفكره وعرَّابه وصاحب صيحة الجهاد الأولى فى حربه ضد الجنوب، الترابية هم من دفنوا الجنوب فى أحراش الانفصال. تخوين الجنوبيين ليس مهضوماً، حق كل الشعوب فى تقرير مصيرها مثبت فى أدبيات الأممالمتحدة، كما أن الحديث عن دور إسرائيلى وأمريكى فيه شبهة لا يقبلها جنوبى على نفسه ولا على وطنه، الطلاق لا يحتاج إلى دمغ الشمال بالإسلاموية، ولا دمغ الجنوب بالأفريكانية. كما أن إدخال دول المنابع طرفاً فيه تعليق على شماعة الغير، نحن وهم بأيدينا وأيديهم ذهبنا للانفصال (وهو كُره لكم)، دول المنابع ستتأثر بالانفصال كما ستتأثر به مصر، وعلى دول المنابع أن تتعاون مع دول المصب (الشمال السودانى ومصر) لرعاية الدولة الوليدة واحتضانها حتى لا تكون فتنة بين تلك الدول، وهذا أمر خطير وشرحه يطول فى ظل التربص الغربى بالحالة السودانية. إفشال الدولة الوليدة وإصابتها بالفشل السياسى مبكراً نوع من المصادرة على المطلوب.. إفشال الدولة لن يؤدى إلى الوحدة الطوعية، التى تأتى بالاحتياج، كما احتاجت ألمانياالشرقية إلى شقيقتها الغربية، دعوا الأشقاء يتحاوروا، وإلى بعضهم البعض يحتاجوا. مد الدولة الجديدة بالخبرات الشمالية فى إدارة الدولة، والشمالية الشمالية (مصر) بالعون السياسى واللوجيستى مهم وضرورى.. ضم الدولة الوليدة إلى الجامعة العربية، وغالبية سكان الجنوب يتكلمون العربية، (وإن كانت عربية جوبا) ولكنها كافية للجلوس إلى العرب والتعاطى مع الأشقاء - ضرورى وجميعاً يستطيعون دعم الدولة الجديدة، بما يؤهلها لعلاقة سلامية مستدامة تنفض ثارات الماضى وجراحه، وعلى طريقة عمرو دياب «مابلاش نتكلم فى الماضى»، إنما الحاضر أحلى على طريقة كوكب الشرق.. الجنوبيون لا يسمعون عمرو دياب ولا الست، يسمعون تامر حسنى، ولله فى خلقه شؤون..! لسنا بصدد تحبيذ الاستقطابات، بمعنى لا فضل للعرق الأفريقى على السلالة العربية، ولا الإسلامى على المسيحى.. مطلوب علاقة سوية تقوم على المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة. دور مصر حيوى وضرورى فى الشمال كما فى الجنوب، كلاهما مجروح، ومَنْ غير مصر قادر على تطبيب الجراح، جراحهم عميقة، مرة بالحرب الأهلية التى طالت واستطالت، ومرة بالانفصال الذى نرجو أن يمر سريعاً مثل سحابة صيف تمطر خير الوحدة على الأرض الجدباء وحدوياً وتحولها إلى سندس أخضر بلون حقول الجنوب. لن نتحدث كثيراً عن المحاولات المصرية الدؤوبة للحيلولة دون اليوم الموعود، ولن نمنّ على إخوتنا هنا وهناك بقليل من كثير فى أعناقنا ديناً لهم، فمصر بيتهم الكبير. لن نُذكّر بزيارة الرئيس مبارك إلى «جوبا»، والزيارات المتكررة للثنائى الحادب على الوحدة عمر سليمان وأحمد أبوالغيط إلى جوباوالخرطوم وبالعكس، زيارات ساهمت بقدر كبير فى تحييد طالبى الثأر وقارعى طبول الحرب، فإذا كان الانفصال واقعاً فليكن برداً وسلاماً على الشمال قبل الجنوب وبالعكس. القاهرة الصابرة على ما يجرى فى السودان ترى ضرورة استيفاء كل الاستحقاقات التى تتبع الاستفتاء حذر الحرب الأهلية التى إن اندلعت فلن تُبقى ولن تذر فى ظل طغيان حديث الانفصال، وعُلو صوت الانفصاليين على الجانبين. هناك فى أحراش الجنوب من يسعى إلى الانفصال منذ العام 1956 (تاريخ الاستقلال عن التاج البريطانى). مصر تريد - آسفة - انفصالاً أبيض لا يُراق على جوانبه الدم، يطوق خطره الداهم، الانفصال يريده البعض دموياً قانياً، اللهم ارحم السودان وأهله. مصر التى أعطت حق تقرير المصير للسودان فى العام 1956 لن تضن بذات الحق على جنوب السودان الذى انتزعه فى قرارات أسمرة المصيرية فى العام 1995. مصر لن تقف حائلاً دون رغبة السودانيين الجنوبيين فى الانفصال، ولكنها ترشّد تلك الرغبة، وتهدئ من روع السودان وأهله من انفصال يُخشى منه أن يقضى على الحرث والزرع والنسل، وكما فقد الجنوب شبابا أخضر فى حرب الشمال، يُخشى على الجنوب من حرب الجنوب - الجنوب، حرب أهلية، حذراً يقولون ما بين الجنوب والجنوب أكثر مما بين الشمال والجنوب. انفجار السودان سيتشظى فى أفريقيا، صوملة السودان يُخشى منها على صوملة دول شرق أفريقيا فى حزامها الذى يحيط بخاصرة مصر. الخشية المصرية لها أبعاد استراتيجية تحض على وحدة السودان.. الخشية المصرية لا تجد آذاناً تنصت فى الخرطوم أو جوبا، عجلة الاستفتاء دارت، عجلة الانفصال دارت، لا يمكن إيقاف ماكينة الانفصال الهادرة هناك فى أحراش الجنوب، لا حديث فى السودان من نيمولى جنوباً إلى حلفا شمالاً، ومن بورسودان شرقاً إلى الفاشر غرباً إلا عن الاستقلال فى زمن سُحقت فيه الوحدة تحت سنابك خيل جبهة الترابى التى تنادت إلى الجهاد فى الجنوب حتى أضاعت الجنوب والشمال معاً. (يُنشر بالتزامن مع مجلة «المصور» الأسبوعية)