لم أندهش أو أفاجأ على الإطلاق- مثل كثيرين غيرى- بنتائج الانتخابات الأخيرة، على الرغم مما بدا فيها من فجاجة وغباء، خاصة أنه كانت هناك فى الماضى القريب انتخابات أخرى للمجالس المحلية ومجلس الشورى لا تختلف عنها كثيرا وعلى نفس الدرجة من التزييف.. ولكن ما يدهشنى حقاً ويُثير العجب فى نفسى، هو تلك الأقوال التى يكررها قادة الحزب الحاكم وتابعوهم فى وسائل الإعلام المختلفة عن أن الانتصار الكاسح الذى حققه الحزب إنما يرجع إلى دراسات واستطلاعات وترتيبات وتكتيكات قام بها فلاسفة الحزب وأمناؤه النوابغ منذ عام 2005، حين جرت آخر انتخابات لمجلس الشعب، واستطاع فيها عدد لا بأس به من الأصوات المعارضة والمستقلة التسلل والاستيلاء على بعض مقاعده! أغلب الظن أنهم يريدون إيهام رئيس الحزب بأنهم أدوا عملاً منظما وبذلوا جهداً كبيراً حتى يصلوا إلى هذه النتيجة التى أثلجت صدورهم وقوت شوكتهم، فحصلوا على كل مقاعد المجلس تقريباً، وتركوا بضعة منها لأشخاص. إن الميزة الكبرى للانتخابات التى جرت مؤخراً هى أنها أظهرت بوضوح بالغ وبدرجة لم يسبق لها مثيل الحالة المُزرية التى وصلنا إليها بعد أربعة عقود من انتهاء مرحلة الثورة بوفاة زعيمها عبدالناصر.. تلك المرحلة التى لم يدّع أحد على الإطلاق أنها شهدت حياة ديمقراطية بالمعنى الكامل للكلمة، ولكنها شهدت بلاشك- ولأسباب كثيرة منها كاريزما وشخصية الزعيم، الذى جاء فى مرحلة مهمة من تاريخ الشعب المصرى- إثارة المشاعر الوطنية والانتماء القومى والرغبة فى النهوض واللحاق بركب العالم المتقدم، بإصراره ونظامه على العمل فى مشروعات قومية عملاقة وبطموحات كبيرة، فى ظل مناخ يُقرب الفوارق بين الطبقات ويتسم بقدر كبير من العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، والرغبة الجِدية فى محاربة الفقر والمرض والجهل والأمية، بأعمال يلمسها الناس ويشاركون فى صنعها. أربعة عقود بعدها شهدنا فيها كل ما هو رِدة وعودة إلى عصر ما قبل الثورة، من عودة شكلية لأحزاب لا قيمة لها وليس لها من المعنى الحقيقى للحزب إلا الاسم، ومن عودة إلى الطبقية البغيضة والإقطاع والاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، وانعدام العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر وإهمال العلم والتعليم والثقافة الوطنية واللغة العربية، وزيادة نسبة الأمية وإهمال كل برامج مكافحتها، التى بدأت فى سنوات الثورة الأولى، فى نفس الوقت الذى خيم فيه الجهل والفكر الدينى المتطرف على سماء الوطن بصورة مُرعبة. فى ظل هذه الأجواء وطوال العقود الأربعة الماضية جرت انتخابات كثيرة، لا تستحق واحدة منها هذا اللفظ بأى صورة من الصور.. فالانتخابات تعنى شعباً يملك قوت يومه وإرادة حرة ونزاهة فى الفعل وشفافية فى الإجراءات ورقابة وحماية شعبية.. وكل ما كان يجرى فى مصر طوال العقود الأربعة الأخيرة ليس فيها كلها شىء واحد من هذا على الإطلاق، بل ظل الأمر يسير من سيئ إلى أسوأ حتى وصلنا إلى الحصاد الأكبر لما تم زرعه طوال العقود الأربعة فى صورة مهزلة الانتخابات الأخيرة، التى أدت إلى ما سماه أحد الكتاب المحترمين عن حق «الاحتلال الوطنى»! الأمر إذن لم يكن يستلزم أن يقوم السيد أمين تنظيم الحزب الأوحد بعمل تكتيكات وتربيطات وتخطيطات، ولا أن يقيم غرفاً للعمليات ويُحضر كمبيوترات فى مشهد مثير للضحك والرثاء.. فالأمر محسوم لحزب الحكومة.. ولو أعيدت الانتخابات مائة مرة بنفس طريقة إدارتها وأحوال الشعب كما هى الآن، والتى وصل إليها بعد عقود أربعة عِجاف من حكم الحزب الوطنى، فإنه من الطبيعى جداً والمنطقى أنه سوف يفوز. ملحوظة: أرجو من السيد صفوت الشريف، رئيس المجلس الأعلى للصحافة، وأعضاء مجلسه الموقرين، أن يُشاهدوا تسجيل حلقة برنامج «90 دقيقة» بقناة المحور يوم الأربعاء 15/12 التى استضاف فيها معتز الدمرداش أحد رؤساء تحرير الصحف الحكومية الذين أتحفنا المجلس بتعييناتهم الأخيرة، فأخذ يمتدح الانتخابات الأخيرة ويصف مجلس الشعب الجديد بأنه سيكون الأشرس والأقوى فى معارضته من أى برلمان آخر على مدى التاريخ المصرى، حسب رأيه. [email protected]