أسبوع كامل قضته الطفلة «حبيبة» فى حضانة معهد أزهرى فى عين شمس.. تحمل حقيبة صغيرة وتستيقظ فى السادسة صباحا كل يوم.. تتحدث إلى والدتها عن زملائها ومدرستها والزحام، وعندما ينطلق «كلاكس» أتوبيس المدرسة تهرول «حبيبة» فى يد والدتها وتسلمها الأم إلى «المشرفة وسائق الأتوبيس».. وتقول لنفسها: «هذه أمانة وأنتظر أن تعود لى كما هى.. بضحكتها وبراءتها.. أريدها أن تعود لتطبع قبلة على جبين شقيقتها الرضيعة (حنين).. وتقبل والدها الذى يعود من عمله متأخرا». المشهد تكرر ب«هدوء» طوال أسبوع كامل.. «حبيبة» تفرح وتحكى لوالدتها عن كل شىء.. تستقل أتوبيس المعهد وتذهب وتعود فيه إلى منزلها «سالمة.. مبتسمة.. مرحة». الأحد الماضى وعند الثامنة صباحا.. كانت حبيبة مع موعد آخر.. موعد قاس مؤلم.. حبيبة تقف بهدوء فى فناء المعهد الأزهرى وفجأة ودون مقدمات.. لا تعرف ماذا حدث.. حبيبة تشعر بألم كبير.. ألم أفقدها الوعى.. جعلها لا تقوى على الحركة أو الكلام أو أن تفتح عينيها.. أتوبيس المعهد «دهسها» دون رحمة أو «سابق إنذار» حطم رأسها وجزءاً من القفص الصدرى فى فناء المعهد.. من يومها وحبيبة «سجينة» خراطيم تنقل إليها الطعام والشراب وب«حساب».. من يومها وحبيبة ترقد على جهاز التنفس الصناعى بعد أن تعطلت كل أجهزتها.. حبيبة لا تتحرك.. ملقاة داخل غرفة العناية المركزة فى مستشفى دار الفؤاد.. لا تعلم نهاية «الرحلة القاسية».. ترقد دون حركة.. الخطوة التى تفصل بين حبيبة و«الموت» هى نفس الخطوة التى تفصل بينها وبين «الحياة».. تنتظر فقط «الدعوات» و«استشارياً كبيراً» يأتى إليها من الخارج وبالتحديد من فرنسا.. جسدها محطم ووجهها متورم وأجهزتها «معطلة».. منظرها البرىء تحول إلى «وحش» بفعل التورم والتجمعات الدموية والكسور.. أجهزة التنفس الصناعى والخراطيم وضغط الهواء فى الطائرة «مانع» كبير لسفرها.. ويكاد السفر يكون «طريقا» ممهدا لأن تفقد حبيبة حياتها إلى الأبد. حبيبة على جابر عمرها «4 سنوات».. لا أكثر.. إنها لم تخطئ عندما توجه بها والدها وألحقها ب«معهد أزهرى لتدخل كى جى ون».. ليس ذنبها أنها توجهت إلى مدرستها ووقفت فى فناء واسع.. الطبيعى أنه مكان ل«لهو ولعب وطاقة يمكنها أن تفرغها».. الطبيعى أنه «منطقة محرمة» لكل خطر يهدد حبيبة ومن فى سنها ومن فى هذا المعهد.. لكن «مكان اللهو والمنطقة المحرمة» تحولا إلى «موقف أتوبيسات» تابع للمعهد.. به يصرخ السائقون: «هات ورا.. اكسر عجلة يمين.. أيوه حاسب إنت كده دست بنت.. حاسب دم البنت ساح.. البنت هتموت».. ويهرول الجميع فى وقت ربما يكون «وقتا ضائعا». على جابر والد حبيبة.. شاب فى الثلاثينيات يقيم فى منطقة عين شمس.. يعمل فى التجارة.. حالته «ميسورة».. كان بإمكانه أن يلحقها بمدارس أجنبية لكنه اختار الأزهر.. اختار أن تكون «حبيبته وأول فرحته» حافظة للقرآن وتستكمل دراستها فى «الطب.. الهندسة» كما تريد فيما بعد.. «على» منذ أن اتصلوا به فى الثامنة من صباح الأحد الماضى - قبل 7 أيام - وهو حائر.. تائه.. لا يعود إلى منزله.. يجلس خارج غرفة العناية المركزة يتابع ابنته من خلف الزجاج.. ينتظر أن تأتى إليه كلمة تطمئنه، ويقول له الطبيب فى مستشفى دار الفؤاد: «يعنى الحالة صعبة.. إحنا منقدرش نعمل حاجة.. لازم استشارى من بره.. وبالتحديد من فرنسا.. لأن حالتها متأخرة». «على» يعود إلى سيارته أمام المستشفى.. حولها إلى منزل وغرفة نوم.يطارد النوم.. لا يتوقف عن الدعاء.. يطلب من الله أن يتدخل بعنايته لتعود «حبيبة» إلى الحياة. «على» الذى تظهر على وجهه علامات الصبر والإيمان والرضا» بقضاء الله.. ظل 17 ساعة كاملة يوم الحادث يبحث لابنته عن مستشفى ينقذها.. قال: أنا حزين لأنى من البلد دى.. أنا راجل مقتدر ورحت ل12 مستشفى استثمارى فى القاهرة.. وجميعها رفضت استقبال الحالة.. ال17 ساعة كانت كفيلة بأن تنقذ حبيبة.. لكنها أصيبت ب«ضمور» فى المخ.. و«ضعف» فى عضلات القلب.. أنا مؤمن بقضاء الله.. ليس أمامى سوى الله والرئيس مبارك.. هو والدى وأقول له: «أنت أبونا كلنا.. أذكرك بحفيدك الذى بكينا جميعا من أجله وأجلك فى مايو الماضى.. أذكرك بلحظات حزنك عليه.. وأطلب منك التدخل لتنقذ حفيدتك حبيبة».. حبيبة التي تفصلها بين «الموت والحياة» خطوة واحدة.. مسافة نتمنى أن تكون أقرب إلى «الحياة».. نتمنى أن تبتعد عن «الموت».. نتمنى أن تعود «حبيبة» إلى حضن والدتها وإلى شقيقتها «حنين».. أن تعود وتقف على قدميها وتحمل «كتبها وأدواتها» وتذهب إلى مدرسة أو معهد به فناء.. فناء لا توجد به «أتوبيسات قاتلة».. أتوبيسات تضع أطفالا أبرياء على مسافات متساوية بين «الموت والحياة».