كنت أظن قبل خمسة عشر عاما أن الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى يعيش حياة الملوك من كثرة ما ردد البعض عن ثرائه وامتلاكه عزبة ضخمة فى الإسماعيلية. صدقت بعض كذابى الورق ومُدِّعِى الإبداع، ولم أرَ عيبا فى ذلك، فالرجل كتب إلى جانب الشعر مئات الأغنيات لعشرات المطربين ومئات الأغنيات للأفلام والمسلسلات والاحتفالات، لكنى توقفت كثيرا أمام عبارة قالها لى صيف عام 1994 عندما أجريت معه حوارا نشر على حلقات فى مجلة (نصف الدنيا)، إذ قال: (أنا صوت الفقراء فى بلادى). ساعتها لم أستسغ العبارة جيداً، بل بدت لى عبارة فوقية ومفارقة للواقع. فالفقراء - حسب ظنى - لا يعرفون الشعراء بالصورة التى يعتقدها بعض المثقفين. ورغم يقينى أن تجربة الأبنودى مغايرة ولا يقاس عليها، إلا أن العبارة ظلت محاصرة بما عندى من أفكار ووعى عن حياة الفقراء الذين يستهلكهم الجرى وراء لقمة العيش بل يخصم الجوع والبؤس من أعمارهم الكثير. لكن بعد ذلك بقليل سافرت مع الأبنودى إلى الجنوب وتحديداً إلى قنا وأسوان.. هناك كانت التجربة التى لا ترتهن بالنظريات ولا تخضع للقواعد.. هناك عقدت الدهشة لسانى، وتفجرت الأرض تحت قدمى، واهتزت من طوفان البشر الذين تدفقوا كالموج الهادر، إذ كان أصحاب الجلابيب والعمائم فى تزاحم لم أر مثله من قبل رغم أننى ابن هذه البلاد، لكن لم يسبق لى أن شاهدت أهل الصعيد يُجْمِعُون على محبة إنسان بهذا الشكل، فقبلية الصعيد تتحكم دائماً فى مشاعر ناسه وتسيطر على أى مشاعر أخرى. وحين استمعت إلى هؤلاء الذين أتوا لتوهم من الحقول يرددون أشعاره قلت (إنهم أهل الصعيد يباهون بواحد منهم أصبح اسمه يملأ الآفاق وهم هنا يحتفون به على طريقتهم). بعدها ذهبت معه إلى مدن وقرى فى الدلتا، ولم يكن المشهد أقل هدوءاً مما رأيت فى الصعيد فقلت: (إنهم أهل مصر الذين يحبون مَنْ يهبط من علياء النجومية ويجالسهم على المصاطب ويحاكيهم فى الحقول..).. وظللت هكذا إلى أن ذهبت معه إلى عدة بلدان عربية وأذهلنى ما رأيت، إذ كانت العواصم العربية تتحول إلى قرى وحوارى مصرية يتزاحم فيها الناس لسماع صوت الشاعر.. رأيت كيف تعطل المرور فى شوارع العاصمة الأردنية، وكيف احتشد الناس أمام شاشة عملاقة خارج قاعة الأمسية فى أبوظبى.. عند ذلك أيقنت أنه شىء آخر غير كل ما كنت أعتقد.. إنه الصدق حين يتلاقى مع موهبة جبارة وشخصية فذة. كأنه كان من الحتمى أن يكون فى هذه الأمة شاعر تَشكّل وعيه الحقيقى من معرفته بالناس وإحساسه بدقات قلوبهم ووقوفه فى وجه ظالميهم، والتعبير ببراعة عن أحزانهم وأفراحهم. هكذا حظى الأبنودى بجماهيرية لا يقاس عليها. جماهيرية تجنبه المقارنة وتسد عنه مكائد الضعفاء. الأبنودى كان الأقدر على الوصول إلى قلوب الناس، والتعبير عن واقعهم وأحلامهم، ولهذا وجد الملايين منهم وجوههم الحقيقية فى ثنايا شعره. أعود إلى عزبة الأبنودى التى هى بضع قراريط يزرعها بنفسه، وبيت بناه بيديه، لا مهندس ولا مقاول، كأى فلاح يزرع أرضه ويبنى بيته. بيت وقاه شر المدينة وأوى إليه عند المرض.. بيت أستلطف ظله عندما يشتد الهجير فى المدينة فأشد إليه الرحال، وحيداً، أو مع نوابغ جيلى أحمد المسلمانى وبلال فضل، ننهل من زاده الفكرى ونأكل من عمل يديه. عزبة الأبنودى العظيمة والحقيقية هى إبداعه الخالد.