فى عام 2002 افتتح الرئيس مبارك مكتبة الإسكندرية بحضور عدد من رؤساء وملوك العالم. الفكرة ذاتها تستحق العناء؛ فالمكتبة القديمة كانت أحد المعالم الكبرى فى التاريخ المصرى، وهى إحدى أدوات مصر كقوة عظمى فى عولمة العالم القديم؛ فقد كانت المكتبة الأساس الذى قامت عليه قوة مصر حتى اليوم. أعنى الثقافة، أو ما سماها هيكل مؤخراً: القوة الناعمة. لكن فى المشروعات الثقافية لا يصح أن نتحدث عن «فكرة» بل عن ممارسة وطريقة تحدد وسائل تحقيق هذه القوة الناعمة وغاياتها. هذه الوسائل والغايات لا تبدو واضحة فى أداء المكتبة، إلى الحد الذى حوّل نعومتها إلى نوع من المزلقة والليونة غير المحتملة. لكن أوضاع المكتبة لم تناقش بعد سبع سنوات من إنشائها، إما لتمتعها بالرعاية الرسمية أو بسبب العدد الكبير من المستشارين (من السهل إحصاء عدد المثقفين الذين لا تضمهم لجان المكتبة لا من تضمهم) وربما يعود السبب إلى العاملين معاً: الحماية الرسمية، والتواطؤ الثقافى! ولابد من تحفظ أول يخص تغير الوقت الذى خلق اختلافاً فى دور المكتبة وتأثيرها؛ فالمكتبة القديمة التى أنشأها بطليموس الأول وأكملها الثانى فى القرن الثالث قبل الميلاد، كانت أكبر من خزانة كتب، بل جامعة ومركز أبحاث وخزانة كتب معاً. ومع التخصص كان يجب أن يختلف دور المكتبة، لكن تظل قيم الحرية والفاعلية الثقافية مطلوبة فى كل حين. تمتعت المكتبة القديمة بحرية مطلقة، ومن دون تفرقة بين باحث وباحث على أساس الدين أو القومية، وكانت تلزم كل باحث وزائر بإيداع كتبه فى خزانتها، بل كانت كل سفينة ترسو بميناء الإسكندرية تحمل كتباً ملزمة بتقديم كتبها إلى المكتبة التى تنسخ نسخة لإعادتها إلى حامليها وتحتفظ بالأصل. وبسبب أفق الحرية وتوافر وسائل البحث فإن المكتبة كانت مكاناً للعديد من الباحثين الذين لم تزل إضافاتهم العلمية أساس علوم الهندسة والطب والفيزياء إلى اليوم، ومن بينهم أرشميدس وإقليدس وجالينيوس، وعشرات غيرهم، حيث كانت العقول تهاجر إلى مصر، وليس منها كما هو اليوم. فى المكتبة الجديدة، لا مجال للبحث العلمى أو الفلسفى، وربما ليس مطلوباً منها ذلك، بعد أن توزعت اختصاصات المكتبة القديمة بين الجامعة ومراكز البحوث، بينما لا يكاد المرء يعرف عدد ما تضمه المكتبة من كتب، على الرغم من تطور وسائل الإحصاء، فقط نقرأ عن قدرة المكتبة على استيعاب ملايين الكتب، وأنها تمتلك مكتبة إلكترونية أكبر من مكتبة الكونجرس، أين هذه المكتبة وما هى آليات الاتصال بها؟ لا أحد يعلم، بينما نعرف بالتحديد أن المكتبة القديمة ضمت ثلاثمائة ألف كتاب. حرية الاقتناء التى تمتعت بها المكتبة القديمة تبخرت فى الألفية الثالثة أمام كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الذى اضطرت المكتبة الجديدة إلى رفعه بدعوى إساءته إلى اليهود! مشروع مثل (الباحث المقيم) فى الألفية الثالثة لا يشبه أبداً إقامات فلاسفة وعلماء ما قبل الميلاد، وليس فيه عناء البحث أو أدواته، بل مجرد إحياء للذكرى على طريقة تمثيل أدوار الحياة فى مصر القديمة على طريقة القرية الفرعونية، حيث تستضيف المكتبة كاتباً لإلقاء عدة محاضرات لا يتجاوز عدد حضورها أصابع اليدين، لقاء مبلغ محترم. لا فرق بين محاضرة المقيم ومحاضرة العابر إلا فى التقمص والتمثيل لدور الباحث فى المكتبة القديمة. وعندما كان الباحث المقيم هو نصر حامد أبوزيد، اصطدمت المكتبة مرة أخرى بسقف الأمن، وجعلت إقامته سراً، حتى على الصحافة، ومنع الأمن الجمهور القليل الذى حاول الحضور! علاقة المكتبة بمثقفى الإسكندرية وجامعتها، التى تفصلها عنها عدة أقدام، مقطوعة، لأنها مشغولة بالعلاقات مع مثقفى القاهرة المتنفذين إعلامياً. ولا علاقة لها بالمواطن السكندرى، لأنها مشغولة برضا البيت الرئاسى. ومن يذكر وقائع الافتتاح يتذكر بالضرورة أن دهشة الصحفيين الأجانب لم تتعلق بالمكتبة، بل بسؤال وحيد: أين ذهب شعب الإسكندرية؟! إخفاء سكان المدينة للدواعى الأمنية حدد إلى اليوم علاقتهم بالمكتبة، حيث تصاب المدينة الطولانية التكوين بالشلل عند افتتاح كل مؤتمر يحضره مسئول. وأتمنى أن تجرى مؤسسة محايدة استفتاء يقول فيه أبناء الإسكندرية رأيهم فى المكتبة التى تفرض عليهم حظر التجول فى كل افتتاح لمؤتمراتها الطنانة الرنانة، مثل مؤتمر الإصلاح الذى يعقد سنوياً تحت عناوين تتغير كل عام حسب الموضة. مرة وسائل الإصلاح، ومرة تمكين المرأة، ومرة مؤسسات المجتمع المدنى، أما هذا العام فيحمل عنواناً مسجوعاً (عالم عربى متغير فى كوكب متغير) وحسب تصريحات رئيس المكتبة فإنه ضم مائتين من الباحثين، لكنهم قبل افتتاحه نقصوا واحداً، حيث أعيدت الكاتبة الفلسطينية نعمة خالد إلى دمشق مساء السبت على ذات الطائرة التى أقلتها، لأسباب أمنية، على الرغم من مشاركتها فى المؤتمر فى أكثر من دورة سابقة، وفى كثير من مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة. وهكذا ثبت للمؤتمرين قبل أن يبدأ المؤتمر أن العالم العربى لا يتغير، مثلما أثبتت ذلك التوصيات المعتقة للمؤتمرات السابقة. لكنها شهوة الكلام المباح فى محفل مغلق يضم متشابهين يعرف كل منهم ما يقوله الآخرون دون أن تراهم السلطة التى هى فوق فتتغير، أو يراهم المواطن الذى يفهم كل شىء. لكن يد التغيير قصيرة وليست فى طول لسان الإصلاح!