حظى العام الماضى بعدد من الإضرابات فاق الثلاثمائة، وبخصم العطلات الرسمية، فإن المعدل هو إضراب سافر لكل يوم من أيام العمل. هذا إن لم نحتسب التباطؤ والتزويغ والابتزاز بالصلاة فى أوقات العمل الرسمية كحالات للإضراب والاحتجاج غير المعلنين على عدم تناسب الدخل مع الحاجات الأساسية للعاملين. وبعد توقف عن الإضراب فى فترة عطلات نهاية العام وبداية العام الجديد، عادت الإضرابات من جديد فى تسارع يعوض أيام الحرمان فى ديسمبر ويناير، ويرشح العام الحالى للتفوق على سابقه! فى الأسابيع الثلاثة الماضية كان لدينا إضراب الصيادلة وثانياً إضراب سائقى النقل، وثالثاً احتجاجات ومظاهرات المحامين، وكان من الممكن أن يحتل الصحفيون الحالة الرابعة، لولا أن قنوات نقابتهم مفتوحة مع الرئيس الذى طوق الغضب الصحفى بتوجيهات لصرف البدلات المتأخرة. والملاحظ أن نسبة لا يستهان بها من الإضرابات الكبيرة تنطلق من فتيل واحد اسمه يوسف بطرس غالى، من أزمة الضرائب العقارية إلى أزمة الصيادلة إلى الصحفيين، إلى أزمة اتحاد الكتّاب. وهناك دائماً خطأ قانونى جسيم يرتكبه الوزير. فى أزمة الضرائب العقارية كان المطلب المساواة مع موظفى الضرائب الآخرين، وليس هناك أى مبرر قانونى لاختلاف المعاملة من إدارة إلى إدارة فى وزارة واحدة بين وظائف يزاول أصحابها العمل نفسه ويحملون المؤهلات ذاتها! فى أزمة اتحاد الكتاب، هناك وضع يد على أموال قادمة من متبرع خليجى لعلاج الأدباء، لأن الدولة لا تعالجهم كما تعالج يوسف بطرس غالى (بالأرقام المذهلة التى نشرها الصديق حلمى النمنم فى مقاله بهذه الصفحة منذ أسبوعين، وأعادت «المصرى اليوم» تأكيدها الجمعة الماضى). فى أزمة الصحفيين مماطلة غير مفهومة للامتناع عن دفع حق مقرر منذ سنوات، بل هو أدنى من الحق، إذ جفت حلوقنا من أجل إصلاح الرواتب وردم الهوة بين دخول البارونات ودخول الفواعلية من الصحفيين، وهذه قصة أخرى! وفى أزمة الصيادلة، لم يحدث فى عهد قراقوش أو الحاكم بأمر الله أن صدر قانون أو قرار بضريبة بأثر رجعى لمدة ثلاث سنوات. هذه فقط نماذج من السوابق التى تنتهى عادة بزجر الوزير، بهذه الدرجة من التعنيف أو اللين، وصدور تعليمات الرئيس بحل الأزمة! هذا السيناريو المتكرر فى تحدى القانون لبخس العاملين حقوقهم بالباطل، ليس بعيد الصلة عن التحدى الرهيب لتقرير الجهاز المركزى للمحاسبات، والتلسين الذى يمارسه يوسف بطرس غالى على رئيس الجهاز ووصفه بأنه طالب شهرة، بدلاً من الاستحياء من الملاحظات السنوية المتكررة، التى يسهر عليها جيش من رجال القانون، وهى تتضمن مخازى تكفى لإقالة وزارات قارة، وليس الوزارة المصرية فقط. وكلا التحديين (تحدى العاملين وتحدى الجهاز الرقابى) يجعل السؤال حول معنى (يوسف بطرس غالى) مشروعاً: هل هذا مجرد اسم أم سياسة؟ فى الحالتين الأمر محزن ومخيف! إن كان بطرس غالى اسم شخص يمثل نفسه، ووزير ينطق عن هواه، فهذه مصيبة، لأن تغييره منذ الأزمة الأولى كان ضرورياً، وبقاؤه يكشف عن جمود ساسى لا يشبه إلا الموت. وإن كان يوسف بطرس غالى هو الاسم الحركى لسياسة عامة؛ فبئس السياسة التى تستقى نموذجها من أفلام الأبيض والأسود ومسرحيات عادل إمام، حيث يُستأجر كومبارس لمعاكسة المحبوبة، لكى يتدخل العاشق فى الوقت المناسب ويشبعه ضرباً. لكن التكرار وعدم الإتقان لم يضمنا رضا المحبوبة، بل نجحا فقط فى تحويل الأفلام الدرامية إلى كوميدية. فى السياسة للأسف لا يقف الأمر عند حدود تغيير صفة الفيلم، وتحويل المعركة الحامية إلى مشهد كوميدى، لأن مصر لم تعد فتاة ساذجة. هناك وعى سياسى من الصيادلة إلى سائقى النقل. ومن الممكن أن يشاغب وزير المالية، باسمه أو باسم النظام، ما شاء وما شاء له النظام فيما لم يتقرر بعد. يمكنه مثلاً ألا يقلد أمريكا فى تخفيضها الضريبى الذى يستفيد منه 95 بالمئة من الشعب الأمريكى، الحجة جاهزة: لا نتلقى إملاءات من الخارج. وبوسع غالى والنظام ترك المصريين يتدبرون أمرهم برواتب لا تفى بعشر احتياجات البيت، والحجة أيضاً جاهزة: العين بصيرة واليد قصيرة. مع أننا نعلم أن العكس هو الصحيح! وبوسعه أن يجادل فى أرقام الإهدار التى قدرها تقرير المحاسبات بالمليارات، وأن يختلق الذرائع لأسباب ما لا يستطيع إنكاره منها. ولكن ليس من حقه أن يشاغب مع القانون بفرض ضرائب بأثر رجعى أو تعطيل حق منصوص عليه أو التفرقة بين المواطنين لمجرد توفير بعض الملايين لإهدارها عبثاً، لأن كل هذا يقوض مؤسسات الدولة، ويضع الحكومة فى وضع البلطجى، أو على الأقل الزوج عبد الفتاح القصرى: «كلمتى مش هتنزل الأرض أبداً» وبعد كل إضراب «طيب تنزل المرة دى». إدارة الدولة أخطر من إدارة بيت فى فيلم هزلى بالأبيض والأسود، فالصلف والغرور فى التعامل مع الأزمات، ثم التراجع والاندحار يرسخ مبدأ القوة بدلاً من الحق، ويحول البلاد إلى فيلم بالأسود فقط، لا يثير الضحك، بل الخوف على مستقبل الدولة.