كانت الساعة العاشرة مساءً، وإذا بالسكون الرائع قد خيم علي المكان، خاصة بعد أن أسلم أبنائي أنفسهم - علي غير العادة - لنوم عميق، شعرت أنني أمام فرصة ذهبية قلما تتكرر، طلبت من زوجتي التفكير معي في طريقة نستثمر بها هذه الليلة، غابت عني ثواني ثم فاجأتني بقولها: (ولتكن البداية عشاء معتبراً، وبعدها يفرجها ربنا) ثم انصرفت، لحظات هادئة مرت وكأنها تحفزني علي التأمل، انفردت بنفسي، وتركتني أحلق في فضاء من الشفافية والصفاء، مسترجعاً ما لدي من رصيد اللقاءات الأولي بزوجتي، وبينما أنا هكذا، دق جرس التليفون، حاولت تجاهله. لكن إلحاح الطالب أجبرني علي رفع السماعة، وقبل أن أنطق بكلمة واحدة سمعت صرخة تأتي من الطرف الآخر: (الحقني، تعالي حالاً، اطلب بوليس النجدة) تملكني الهلع، بعد أن تيقنت أن صاحب الصوت واحد من أعز أصدقائي، نسيت اللحظات الحلوة والعشاء الفاخر، وهرولت إلي حيث يقيم صديقي، وما إن دخلت من باب الشقة حتي وجدته ملقي غارقاً في دمائه ودموعه، أمسكت بيده المرتعشة وأجلسته في أقرب مكان منه. قال لي وهو يجهش بالبكاء: (ضربني ولدي، كسر نظارتي، وسبني بأفظع الألفاظ، وهددني بترك المنزل إذا منعت عنه المصروف، وحرمته من تدخين السجائر) حاولت تهدئة ثورته قدر الإمكان، والوقوف علي حقيقة ما جري، بصعوبة شديدة التقط أنفاسه وحكي لي صديقي أن مديره العام أعطي العاملين بالشركة - وهو منهم - نصف يوم، وحافزاً قدره مائتا جنيه احتفالاً بتطليق ابنته من زوجها المسجون. وقرر صديقي أن يفاجئ زوجته وابنهما الوحيد بالعودة مبكراً إلي المنزل، واشتري لهما ما تيسر مما يثلج صدورهما، أدار المفتاح في الباب بحذر شديد وتسلل علي أطراف أصابعه حتي دخل الشقة، أخذ ينظر يميناً وشمالاً لكن لا أحد في انتظاره، إلا أن رائحة دخان سجائر كانت تملأ المكان، انقبض صدره عندما لمح زوجته تدخن سيجارة، اقترب منها وفوجئ بابنه إلي جوارها يدخن هو الآخر، هزت المفاجأة أركان الجميع، وثار الزوج ثورة عارمة، وانتزع منها علبة التبغ، ورفع يده ليصفعها، لكن ابنه لم يمهله، وانهال عليه لكماً وركلاً وسباً، وهو يقول: أنت لا تصلح أباً، بل أنت ثور في ساقية. وقبل أن تهاجم أمي لأنها علمتني السجائر، اسأل نفسك ماذا علمتني غير طول انتظارك من الصباح إلي المساء دون جدوي؟. لم أطق سماع المزيد من صاحبي، وقررت العودة من حيث أتيت لأجد زوجتي هي الأخري قد راحت في سبات عميق. ولم يبق لي من حصاد هذه الليلة سوي الحسرة علي الأب المسكين، وسقوطه في عين ابنه كرمز يحتذي، وغرقت في دوامة التساؤلات: من الذي يتحمل مسؤولية ما جري للأب وما فعله الابن؟ من المتسبب في انهيار منظومة القيم وتهاوي الرموز وجرأة الصغير علي الكبير والعطب الأخلاقي الذي جرف النخوة والشرف والنبل وجرد المجتمع من كل آيات الاحترام؟ القدوة هي النموذج المحترم الأعلي الذي يجب الاستفادة منه والاقتداء بخبراته، القدوة هي التي تؤصل مفهوم الاحترام بوصفه جسراً للتواصل بين الأفراد والجماعات الإنسانية، القدوة هي التي يعتبر غيابها بمثابة الضوء الأخضر لميلاد الشر من رحم زبانية جهنم، والحفاظ علي رمزية هذه القدوة وحسن اختيارها سيحفظان الميزان الاجتماعي من الخلل، وسيحدان من التجاوزات، وسيجعلان ما تعارف الناس عليه هو الأصل، وما دون ذلك هو الشاذ. ولا أشك لحظة واحدة أن ما نحن فيه الآن هو الإفراز الطبيعي لغياب القدوة، وربما تغيير النموذج الأعلي بالأدني والأقل، ففي زماننا هذا تغرق قصص حياة العظماء في بحور الواقع المختل، بينما تطفو علي السطح قصة حياة عمرو دياب ومحمد منير وغيرهما من الذين يمكن الاقتداء بهم فقط في ارتداء الغريب، والتحلي بالمشغولات الفضية والكليبات البورنو والغناء المخاطب لكل ما هو سفلي في الإنسان، في زماننا هذا، تصف وسائل الإعلام مطرب الحمار (سعد الصغير) بأنه صاحب رؤية سياسية بعيدة المدي، رغم أنه لا يقرأ من الصحف - علي حد قوله - سوي أخبار الحوادث. والغريب أنه يتم تلميعه الآن كي يكون أحد مرشحي الحزب الوطني في الانتخابات النيابية القادمة، وهو ما يبدو رغبة جادة من جانب المسؤولين لتحويل الاستجوابات والمناقشات الساخنة تحت قبة البرلمان إلي وصلات من «الرقص الشرقي» علي إيقاع أغنية «العنب العنب العنب»، في زماننا هذا لا تستعين وزارة الصحة بالخبرات والأساليب العلمية في توعية الناس بمخاطر أنفلونزا الطيور، وتفضل عليها الأسلوب الغنائي لشعبان عبدالرحيم أول مطرب مكوجي في العالم العربي. وآخر مطرب متهم علي ذمة قضية تعاطي المخدرات، وعمار يا وزارة الصحة، في زماننا هذا يجعل أحد كبار المشايخ (عمرو خالد) من المطرب تامر حسني قدوة ونموذجاً للشباب ويصف فنه بأنه يحمل رسالة سامية وهدفاً واضحاً يفيد المجتمع، وأنتج عمرو للشيخ تامر مقدمة ونهاية برنامج «دعوة للتعايش»، وبرنامج «الجنة في بيوتنا». وعبر سيدي تامر عن امتنانه بهذه الخطوات المهمة في طريقه للصلاح، وتخيل الناس أنه لن يحيد عن هذا الطريق الجديد خاصة بعد خروجه من السجن الذي استمر 8 أشهر، بسبب تزويره شهادة الخدمة العسكرية، وها هو ذا تامر القدوة، يبرهن علي توبته بفيلمين (عمر وسلمي، وكابتن هيما) ويتحفنا في آخر ألبوماته بأغنيات تصلح فقط لهدهدة العوانس في غرف النوم. إن هذه النماذج وغيرها مما يتم تقديمه للشباب سمحت بتدمير ما بناه المحترمون سابقاً، وقلبت المجتمع رأساً علي عقب وسمحت لأنصاف الرجال ببناء المزيد من تلال الفساد وهو ما سيؤدي لغرق سفينة الوطن في متاهات القيم المقلوبة، فهل من منقذ؟! [email protected]