فى صيف عام 1995، انقلب أمير قطر الحالى الشيخ حمد بن خليفة آل ثان على والده الأمير السابق للبلاد؛ فخلعه من الحكم، وعزز أركان سيطرته على تلك الدولة الغنية بالنفط على الساحل الغربى للخليج، وهو الأمر الذى مكّنه لاحقاً من إحباط انقلاب آخر ضده فى العام التالى، كما ساعده على تجاوز مشكلات خطيرة تتعلق بالصراع على ولاية عهده، التى نزعها من نجله الشيخ جاسم، قبل أن يثبّت بها شقيق هذا الأخير الشيخ تميم. والواقع أن الأمير الحالى لقطر أظهر حنكة سياسية وبراعة لافتتين، ساعدتاه على غسل سيرته مما علق بها جراء ذلك التصرف «الإنسانى» المثير للجدل فى مجتمعاتنا الشرقية، فاستطاع أن يوطد لنفسه، ويبنى علاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين. كما أقام الجسور الفعالة مع القوى النافذة فى الإقليم، وسكّن هواجس جيرانه، واحتوى قلقهم المبنى على تصادم مصالحهم مع طموحاته، أو المنبثق من الارتياب والامتعاض من «براجماتيته»، التى لم يعصمه شغفه بها من ممارستها مع أقرب الناس إليه. لكن السياسة تعرف أن العبرة بالنتائج، وقد كانت النتائج بالفعل مذهلة؛ إذ بات من الصعب أن يختلف اثنان راشدان على أن الشيخ حمد منح إمارته، ذات الكتلة الحيوية المتناهية فى الصغر، قدرة ولمعاناً وتأثيراً بأضعاف ما كانت تملك أو تطمح إليه. وباتت تلك المشيخة البسيطة، التى حصلت على استقلالها وعلمها ونشيدها فى عام 1971، تدير أجندة إقليمية، وتتمركز فى أكثر مفاصل الإقليم سخونة واحتراباً، خصوصاً بعدما طوّرت ذراعها الإعلامية «الجزيرة»، تلك التى ملأت الدنيا وشغلت الناس. لقد اجترح أمير قطر ورجاله من السياسيين المحنكين، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، قصة نجاح حقيقية، يمكن بقليل من المبالغة أن تحظى بوصف «المعجزة»، فى فترة زمنية لم تتم عامها الرابع عشر. فها هى تلك الدولة الصغيرة، التى لا تزيد مساحتها على خُمس مساحة سيناء، ولا يتعدى عدد سكانها ال 800 ألف نسمة، نصفهم من الوافدين، تضغط على مملكة راسخة بحجم السعودية وتحرجها، وتبتز دولة محورية بحجم مصر، وتفتئت على دورها وتاريخها ومكانتها. لكن الإنصاف يحتم القول إن هذه العبقرية القطرية وجدت حظوظها فى تهافت قدرات القوى التقليدية فى الإقليم، وفى تفشى التناقضات الثانوية بينها، وفى ضيق أفق النخب العربية الحاكمة معظمها، وتداعى قدرتها على الإدارة والإنجاز. ولم تكن قطر بالطبع قادرة على لعب أدوار تمتد جنوباً فى القرن الأفريقى وجبال صعدة باليمن، وشرقاً فى الخليج العربى، وشمالاً فى العراق ولبنان، وأخيراً، وليس آخراً، فى فلسطين وغيرها، سوى بسبب تراجع الدور المصرى تحديداً، وفشل القاهرة المزرى فى إدارة الأزمات الإقليمية الواقعة فى مجالها الحيوى، أو حتى فى التعبير الإيجابى عن سياساتها ونفسها، إثر انكفائها الطوعى على الذات واستسلامها المطرد للخيبات. وفى تلك المساحة الواسعة بمنطقة الشرق الأوسط، والخالية من أفعال الفاعلين المفترضين، راحت الدوحة تمارس أدوار القوة الإقليمية العظمى عبر تطوير الوساطات، وتوصيل الرسائل، واستخدام الأموال الساخنة، وتفكيك الأزمات؛ مستفيدة من رشاقتها النابعة من صغر حجمها، ومن قوتها المستمدة من ضعفها، ومن ثقة الأطراف فيها لمحدودية مصالحها، ومن تمتعها بمزايا الجغرافيا وتحللها من أعباء التاريخ. دعت قطر إلى قمة عربية طارئة تكرس بها مكانتها ك«زعيمة مفترضة» فى المنطقة، وتعزز صورتها، التى بنتها عبر انحيازات «الجزيرة» وتلاعبها بالوعى العربى الجمعى، وهى المبادرة التى نظر إليها بسطاء العرب بكثير من التقدير والاعتبار. والواقع أن العبقرية القطرية فى هذا الملف بالذات جديرة بكل إعجاب؛ إذ تحقق الدوحة مكاسب شديدة الضخامة من دون رأسمال حقيقى، أوصلتها إلى تصدر المشهد العربى، متمتعة بأعز مكانة بلا أى أعباء أو تداعيات، وباستخدام «تكنيكات» بالية توقف العالم الرشيد عن ابتلاعها منذ عقود من الزمان. تستطيع قطر، التى تقول «حسبى الله ونعم الوكيل» بحق مَنْ رفض حضور قمتها، أن تفعل الكثير من أجل الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. فيمكنها أن تضغط على الولاياتالمتحدة بتهديدها بإغلاق قاعدتى «السيلية» و«العيديد» الاستراتيجيتين، واللتين انطلقت منهما آلة الحرب الأمريكية فى عدوانها على العراق عام 2003. كما يمكنها أن توقف صادراتها النفطية (أكثر من مليون برميل يومياً) عوضاً عن مبيعاتها المعتبرة من الغاز، أو حتى تتوقف عن استضافة الضباط والساسة والتجار الإسرائيليين فى «الجزيرة». لكنها عوضاً عن كل ذلك اكتفت بقرار هلامى عن «تجميد العلاقات مع إسرائيل»، يعرف الجميع أنه لن يصمد حتى يجف الحبر الذى كُتب به. بل إن رئيس الوزراء القطرى نفسه كشف، من دون قصد، عن الخطوط السياسية المفتوحة بين بلاده وتل أبيب، حين اعترف بأنه يستطيع الحصول على تصريح من الإسرائيليين للرئيس الفلسطينى أبومازن للقدوم إلى الدوحة. تكتفى قطر بتثوير العالم العربى ضد مصر والسعودية، وعقد قمم كارتونية، واتخاذ قرارات تليفزيونية، واللعب بعواطف الجمهور العربى ووعيه فى آن. سُئل رئيس الوزراء القطرى قبل أيام: «لماذا لا تغلقون المكتب التجارى الإسرائيلى؟»، فاكتفى بالقول: «قطر مع الإجماع العربى بشأن أى قرار لقطع العلاقات مع إسرائيل»، لكن «الجزيرة»، مع ذلك، راحت تهلل لبوليفيا وفنزويلا، اللتين قطعتا علاقاتهما بإسرائيل قبل أن تحصلا على ذلك الإجماع، ومن دون أن تعقد إحداهما قمة فى عاصمتها تدشن بها زعامتها الإقليمية. سيكون من الصعب على العبقرية القطرية أن تخدع الناس كلهم الوقت كله، لأنها لن تكون قادرة باستمرار على مصادقة جميع الفرقاء والأعداء. على قطر أن تعى، بعبقريتها التى لا يشكك فيها أحد، أنها لا يمكن أن ترضى الرحمن والشيطان فى آن؛ وفى ذلك نُسب للسيد المسيح قوله: «ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسناً، لأنه هكذا كان آباؤهم يفعلون بالأنبياء الكذبة».