قرأت فى إحدى صحفنا الصادرة هذا الأسبوع مقالاً حمل عنواناً يقطر حكمة إذ يقول: «ليت الفلسطينيين قَبِلوا قرار التقسيم.. ليت عبدالناصر قَبِل عرض السلام الإسرائيلى.. ليتهم لم يشكلوا السلطة والحكومة الفلسطينية!»، ورغم ما فى هذا العنوان من تناقض ما بين تَمنِّى قبول قرار التقسيم من ناحية، أى عدم خوض حرب 1948 وما تلاها من حروب لتحرير الأرض، وعدم تشكيل السلطة والحكومة الفلسطينية من ناحية أخرى، أى الاستمرار فى حرب التحرير، فإن هذا العنوان عبَّر بجدارة عن تلك الحكمة التى يتحلى بها البعض بأثر رجعى بعد أن يكون الحدث قد انقضى وتحول إلى تاريخ. وهكذا وجدنا بعض الحكماء يخرجون علينا كلما احتدمت الأمور قائلين: يا ليت العرب قَبِلوا إسرائيل من البداية إذن لوفروا على أنفسهم كل تلك الحروب، أو قائلين: يا ليت عبدالناصر قد ضرب عرض الحائط بالآمال الوطنية للشعوب العربية التى كان يجسدها وعقد صلحاً مع إسرائيل بدلاً من العمل على تحرير الأراضى العربية التى احتلتها. ولست أعرف لماذا لا نواصل تلك الحكمة فنقول أيضاً: يا ليت السادات قد قَبِل بالمثل احتلال سيناء ولم يشنّ حرب أكتوبر 1973 التى حررتها، فالقبول بالأمر الواقع الذى تفرضه إسرائيل والذى تجسده مقولة: ليتنا قَبِلنا بالتقسيم أو ليت عبدالناصر قَبِل بالسلام تتناقض تماماً مع قبول حرب أكتوبر التى جاءت لتغير هذا الأمر الواقع لا لتقبله. ومع ذلك فنحن نقول إن ذلك قول حكيم وهو يضع قائله فوق مجمل الشعور القومى العربى الذى رفض أن يفرض عليه التنازل عن أرضه وسكنه ومزارعه لصالح مستوطنين أجانب آتين من خارج البلاد التى لم يولدوا فيها وربما لم يزوروها طوال حياتهم. وقد يقول البعض إن تلك المقولة الحكيمة ظالمة لأنها تتعامل مع المُثُل والمبادئ بمنطق الأمر الواقع، فهى لا تعترف بأن عدم التنازل عن الوطن أو جزء منه هو قضية مبدأ حيث إننا لم نسمع قط أنه قد فُرض على أى دولة أخرى فى العالم أن تتنازل عن نصف أراضيها لصالح دولة أخرى تنشأ عليها، وإنما تنطلق هذه المقولة من أن قوتنا فى ذلك الوقت لم تكن تسمح بالاعتراض، لذا فقد كان علينا الرضوخ لكل ما يُمْلَى علينا. على أن البعض قد يعود فيشكك فى حكمة ذلك القول على أساس أنه قول يحكم على الحدث بظروف اليوم وليس بالظروف التى كانت سائدة وقت حدوثه، لكن الظروف التى كانت سائدة عام 1947 وقت صدور قرار التقسيم تقول إن العرب كانوا يسيطرون على كامل أراضيهم فى فلسطين وهو ما لم يكن يدفع على الإطلاق لقبول التنازل الطوعى عن الوطن أو نصفه للمهاجرين الأجانب الذين كان الغرب يشعر بالذنب تجاههم، فأراد تعويضهم على حساب من لم يقترفوا ذنباً فى حقهم، ولو أن الحكام العرب قَبِلوا هذا التنازل المشين وغير المسبوق فى تاريخ الدول الأخرى لتحولوا من قادة مهزومين إلى خونة تحاكمهم الأجيال التالية بتهمة الخيانة العظمى. وأنا مع ذلك أقول إن الحكمة كل الحكمة فى أن نقبل هذا المنطق الذى كثيراً ما يخرج علينا فى وقت الأزمات قائلاً: يا ليتنا قَبِلنا كل ما يُفْرض علينا، من التقسيم إلى السلام وياليتنا نقبل بكل ما يُفرض علينا فى أى وقت بلا مناقشة، وبهذا المنطق نفسه أقول اليوم للإخوة الفلسطينيين: يا ليتكم تكونون حكماء هذه المرة وتقبلون الاحتلال الحالى لأراضيكم فى الضفة الغربية وفى غزة، ويا ليتكم تقبلون الحصار الذى تفرضه عليكم قوات الاحتلال، ويا ليتكم تقبلون سفك دم الأطفال وهدم المدارس والمستشفيات حتى تصححوا أخطاء العرب السابقة الذين رفضوا التنازل عن أراضيكم للمهاجرين الآتين من خارج البلاد.