داخل القاهرة وعلى بعد 10 دقائق من مطار القاهرة تتجسد مأساة الشعب الفلسطينى، هنا فى شارع الثورة حيث يقبع فلسطين.. ليس الكيان الذى أنهكته الحروب الدامية، لكنه ملخص لما يمكن أن يكون هناك.. 30 عاماً هى عمر هذا المستشفى الذى أسسه د. فتحى عرفات شقيق الرئيس الراحل ياسر عرفات كمستشفى يستقبل الحالات التى يصعب علاجها فى قطاع غزة، وذلك قبل أن تكثر عمليات القصف ليصبح المستشفى أحد أهم مراكز رعاية الجرحى فى مصر، يشرف عليه عدد من الأطباء الفلسطينيين، وتحول مستشفيات الهلال الأحمر إليه الحالات التى تتكفل وزارة الصحة الفلسطينية بتكاليف علاجها.. فى مدخل المستشفى تستقر صورة كبيرة للرئيس ياسر عرفات، ولا تخلو جدران المكان من صور قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وصور زيارات ياسر عرفات، لشقيقته المريضة كلما زار القاهرة إلى أن توفاهما الله بينما كانت الزيارة الرسمية لمحمود عباس أبومازن رئيس السلطة الفلسطينية السبت الماضى. فى الغرفة 203 يرقد أحمد عمار «20 عاماً» يرعاه ابن عمه الأكبر محمد، يخفى عنه تفاصيل إصابته بدقة حتى لا يتأثر بذلك، يعانى أحمد من آثار سقوط صاروخ جوى عليه هو و3 من زملائه حيث كانوا يجلسون إلى جوار منزله، اندفع بفعل الصاروخ مسافة 400 متر حيث وجده أقاربه بين أشلاء زملائه، يعانى من تهتك فى القفص الصدرى لدرجة تجعل ما يضمه التجويف الصدرى من أعضاء شبه ظاهر للعيان فى وجود إضاءة قوية.. فقد إثر الصاروخ أعصاب يده وعينه اليسرى وأنفه لكنه لم يفقد إيمانه بالعودة مرة أخرى إلى غزة، يشعر بضيق بسبب ما تعانيه بلاده: «الصاروخ بالنسبة لنا حاجة عادية.. دا أنا حتى اللى نزل على كان صاروخ طيارة استكشاف صغيرة.. لو كان نزل على صاروخ إف 16 كان زمانى بقيت أشلاء.. بخرج وأصدقائى بعد كل قصف أمسك كيس أسود كبيراً أجمع اللى أقدر عليه من الأشلاء، رجلاً أو إيد وباقى جثة، ندفنها سويا ونصلى عليها، لكن ما يحزننى فعلاً أن أصدقائى ماتوا دون أن أساعدهم أو أدفنهم أو أصلى عليهم». بعده بغرفتين يرقد مهدى البنا «24 عاماً» يصلى ممدداً على ظهره، يدعو له ابن عمه مهدى - أيضاً - بأنن يتقبل الله صلاته ودعاءه، يعاود النظر إلى قناة النيل للأخبار ويرجو الممرض أن يسمح لهم بوصلة من الدش المركزى ليشاهد قناة الجزيرة أو الأقصى، لأنها تطمئنه أكثر: «صور القتلى والجثث لا تزيد حالتى سوءاً بل على العكس أطمئن بها على ما تبقى منى هناك، الجزيرة تضم تحليلات ومتابعات إخبارية أكثر وإن كنا كفلسطينيين نفضل قناة الأقصى، لأننا نشك دائماً فى نوايا قناة الجزيرة التى غالباً ما تتناول الموضوعات من وجهة نظرها هى فقط». مهدى كان يستعد لإتمام زواجه على ابنة عمه «سلمى»، لكن القصف سبق مراسم العروس ب3 أيام، يطمئن على خطيبته تليفونياً، يستبشر باسمها خيراً فى أن «يسلمها» الله من أى شر، يبتسم خجلاً عندما يتذكر أنه اشتاق إليها ويحاول أن يتماسك كلما تذكر أنها تحت القصف «ممكن أعمل إيه؟! أنا هنا وهى هناك تحت القصف، صحيح إنى بحبها لكن لو ماتت يبقى ده قدرها وقدرنا إحنا الاتنين، كل اللى أقدر أعمله إنى أدعى لها». الصاروخ الذى أصاب مهدى استقرت شظاياه فى نصفه السفلى من بطنه ورجليه، إحداها لا تتحرك نهائياً، لكنه ينوى أن يعود لإتمام زيجته حتى وإن لم يجد «سلمى» على قيد الحياة. أصغر المصابين سناً هو يحيى أبوعمر (15 عاماً) يعشق كرة القدم بشدة، يتدثر ببطانية حمراء اللون ليؤكد أهلاويته، ويرفض تغيير البطانية بأخرى بيضاء، لا يتذكر تحديداً كيف حدثت الإصابة، رأى فى غيبوبته التى استمرت أسبوعاً عدداً من الهلاوس البصرية لا يدرك فعلاً هل عاشها بالفعل أم كانت مجرد رؤى، يحكى عمه الذى يرافقه أنه أصيب أثناء نومه فى قصف حدث فى الثانية بعد منتصف الليل. على المستوى الدولى يحتل رونالدينهو المركز الأول فى قلب يحيى، ويتمنى أن يمتلك نصف موهبته فقط، بينما يكن لأبوتريكة مشاعر خاصة بعيدة عن الملعب: «أنا زعلت إن أبوتريكة لما جه يزور المصابين مكنتش موجود، أبوتريكة مش لاعب موهوب بس لكنه كمان بيحبنا وبيرفع قميصه فى المباريات المهمة تعاطفاً مع غزة، عشان كده إحنا كمان كلنا بنحبه، لكن أنا نفسى» ييجى يزورنا تانى ويقول لى هو حريف كده إزاى ويتفرج على لعبى ويشوف إن كنت بعرف ألعب ولا لأ». أصيب يحيى ووالده جراء القصف ويرقد الأخير فى مستشفى الحلمية العسكرى، لا يعرف عنه شيئاً سوى العبارات المعتادة التى يطمئنه بها عمه، يتمنى أن يعود هو الآخر لأن الرقدة هتقتله، فقد اعتاد أن يلعب الكرة فى غزة تحت القصف دون أن يمنعه شىء.. حتى الصواريخ.