إنها وزيرة الدولة للشؤون الخارجية فى النمسا، إذ كان يتولى وزارة الخارجية زعيم حزبها السيد «شوسل» الذى أصبح مستشارًا للنمسا بعد ذلك، وهو المنصب الذى يعادل «رئيس الوزراء» ويستأثر بذلك اللقب النظامان الألمانى والنمساوى، وقد جمعتنى بالسيدة «بنيتا» علاقة ودية مستمرة منذ أن هبطت إلى العاصمة النمساوية والتقيتها فى اليوم التالى لتسليم صورةٍ من أوراق اعتمادى، وقد أسعدنى أنها شديدة القرب من بلادى وتضع «مصر» فى موقعٍ خاص على خريطة اهتماماتها، وحاولت أن أبحث فى الأسباب وأن أحفر قليلاً فى تاريخها الشخصى، فقيل لى إنها ارتبطت فى مطلع حياتها بقصة حبٍ مع شابٍ مصرى كان يدرس لدرجة الدكتوراه فى «فيينا» وهو الآن أستاذٌ بإحدى الجامعات الإقليمية فى مصر، وحيث إننى لا أستسلم للتفسير المادى للتاريخ فإننى أيضًا لا أرفض التفسير «العاطفى» للبشر، واللافت فى ظنِّى هو أن تلك الدبلوماسية الذكية التى خدمت كسكرتير أول لسفارة بلادها فى «داكار» ثم مستشارة فى السفارة النمساوية «بباريس»، قد قفزت فجأة إلى موقع أمين عام مساعد للأمم المتحدة لشؤون «البروتوكول» خلفًا للسفير المصرى المرموق «على تيمور»، وكان ذلك فى عهد الأمين العام صاحب الرؤية البعيدة والمواقف المستقلة الدكتور «بطرس بطرس غالى»، لذلك كانت تحمل له من الود والاحترام ما يفوق التصور، وكان يكفينى أن أحدثها ببضع كلماتٍ عنه وعن أخباره ومحنته فى المواجهة الشهيرة بينه وبين الإدارة الأمريكية لكى أفتح شهيتها للحوار وتدعونى إلى مكتبها فى اليوم التالى لاستكمال الحديث، وكانت تحمل أيضًا مشاعر الود العميق والصداقة القوية للوزيرة المصرية «فايزة أبوالنجا» فقد تزاملتا فى أروقة الأممالمتحدة عندما كانت السيدة «فايزة أبوالنجا» هى المساعد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة وصاحبة الخبرة الرفيعة فى الشؤون الدولية، ولقد كنت أشعر دائمًا بأن السيدة «بنيتا» شديدة الطموح فهى تتحدث الألمانية والإنجليزية والفرنسية بطلاقةٍ واضحة، وهى متزوجة من إسبانى يهوى الموسيقى والفنون التشكيلية، لذلك أصبحت تتحدث أيضًا الإسبانية وتجيدها كلغةٍ رابعة، ولقد صعد بها طموحها القائم على كفاءتها العالية لكى تكون مرشحة حزبها فى الانتخابات العامة لمنصب رئيس الجمهورية، الذى حصل عليه منافسها السيد «فيشر» رئيس البرلمان النمساوى السابق والذى أصبح رئيسًا للجمهورية بفارق أصوات ضئيل للغاية يتأرجح بين 1% و2%، ولكن السيدة «بنيتا» لم تستسلم للخسارة ولم تقف أمام منصب رئيس جمهورية دولة «النمسا» الذى لم تحصل عليه بفارقٍ محدود، بل اتجهت إلى القارة الأم واتحادها القوى لكى تصبح مفوضة الاتحاد الأوروبى للشؤون الخارجية وهو منصب متميز، ولقد زارت «مصر» أكثر من مرة بحكم منصبها الجديد وكان لى دائمًا شرف استقبالها والالتقاء بها، وكانت كعهدها ودودةً يقظةً محبةً لبلادى وتربطها صلاتٌ طيبة بوزراء الخارجية المصرية، خصوصًا السيد «عمرو موسى» صاحب الكاريزما المعروفة لدى الرجال والنساء على حدٍ سواء ولقد وقفت تلك السيدة الفاضلة وراء منحى الوسام الأعلى لدولة النمسا، رغم أننى كنت قد حصلت قبل ذلك بعامٍ واحد على الوسام النمساوى الرفيع الذى يمنح لمن يسهم بخدماتٍ ثقافية متميزة على المستويين الدولى والإقليمى، وقد جاء ذلك فور انتهاء خدمتى فى بلادها حين حضر إلى القاهرة أحد وزراء الحكومة النمساوية وسلمنى ذلك الوسام فى حفلٍ كبير ضمَّ عددًا من الشخصيات المصرية المرموقة وقد ألقى الوزير النمساوى خطابًا رقيقاً كما تحدث أيضًا فى تلك المناسبة سفير النمسا الأسبق الصديق «فردناند تراوتمانس دورف» وهو سليل أصحاب الدماء الزرقاء، لأنه أحد أحفاد إمبراطور النمسا، ولست أنسى أيضًا أن الوزيرة «بنيتا» أقامت على شرفى حفل توديع كبيرًا فى مبنى وزارة الخارجية النمساوية، وألقت فيه كلمة رقيقة أعطتنى فيها ما أستحق وما لا أستحق، ومازلت أتذكر عندما ذهبت إليها ذات يوم فى مقر وزارة الخارجية طالبًا دعم بلادها لترشيح الدكتور «إسماعيل سراج الدين» لمنصب مدير عام «اليونسكو»، وكانت التعليمات الواردة لنا من الخارجية المصرية هى ألا نقول عنه أنه مرشح «مصر» بل نقول أنه مرشحٌ من «مصر»!، ذلك لأننا كنا نعانى فى ذلك الوقت من انقسامٍ فى المجموعة العربية، حيث كان ينافسه الوزير السعودى الشاعر الدكتور «غازى القصيبى»، ولقد ضحكت الوزيرة يومها كثيرًا وقالت إننا سنؤيد المرشح من مصر حتى لو لم يكن المرشح الرسمى لها، وأتذكر أيضًا خطبتها فى افتتاح المؤتمر الدولى «للمعاهد الدبلوماسية» فى مقر الأكاديمية الدبلوماسية «بفيينا»، والذى حضرته فى الأسبوع الأول لوصولى إلى «فيينا» كمدير سابق لمعهد الدراسات الدبلوماسية فى وزارة الخارجية المصرية، حيث تجلى إلمامها الواسع بالقضايا الدولية والمشكلات الإقليمية لذلك فأنا أظن أن تلك السيدة قد علمت نفسها كثيرًا حتى اتسمت مواقفها بالموضوعية، إلى جانب تعاطفٍ حذر مع الجانب العربى والشعب الفلسطينى، ولقد كانت بوابتها إلى المنطقة منذ بدايتها الأولى هى «مصر» ومازال عطاؤها يتواصل دون توقف على المستويين الأوروبى والدولى، لذلك فإننى أتذكرها دائمًا كصديقة لبلادى، ومسؤولة عالية الكفاءة، وشخصية رفيعة الشأن.