من بين أكثر من مليون ونصف مليون وثيقة سرية تخص الدبلوماسية الأمريكية فى السبعينيات، تبدأ «المصرى اليوم» بالتعاون مع ويكيليكس نشر المراسلات السرية بين سفارات أمريكا حول أنحاء العالم ووزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بشكل حصرى فى أفريقيا والشرق الأوسط. وتنشر الجريدة الحلقة الأولى بالتزامن مع وكالة أسوشتيدبرس، وصحيفة «نيشن» الأمريكية، و«لو اسبرسو» الإيطالية، و«بابلكيو» الإسبانية وعدد آخر من الصحف. وحسب الاتفاق مع «ويكيليكس» - الذى حصل على الوثائق بطريقة سرية وأعطاها حصرياً لهذه الصحف - أُطلق على هذه الوثائق «مراسلات كيسنجر» فى إشارة لأستاذ العلوم السياسية الذى تولى وزارة الخارجية الأمريكية فى الفترة من 1973 إلى 1977 قبل أن يتولى منصب مستشار الأمن القومى فى حكومة ريتشارد نيكسون. فى عام 1975 اختار الرئيس الراحل «أنور السادات» الفريق محمد حسنى مبارك، قائد القوات الجوية آنذاك، نائباً له، ما أثار العديد من التساؤلات بشأن أسباب هذا الاختيار الذى وضع «مبارك» على أولى عتبات المقعد الرئاسى، الأمر الذى تكشف مراسلات الخارجية الأمريكية جانباً منه. وبحسب موقع «ويكيليكس» فقد أرسلت السفارة الأمريكية بالقاهرة يوم 14 إبريل 1975 رسالة إلى وزارة الخارجية بواشنطن وعدد من سفاراتها تحمل الرقم 1975CAIRO03734، استهلتها بالحديث عن استقالة حكومة عبدالعزيز حجازى واعتزام السادات إعلان رئيس وزرائه الجديد فى خطاب يلقيه مساء نفس اليوم، والمتوقع أن يكون وزير داخليته ممدوح سالم، فيما سيتم الإعلان عن التشكيل الحكومى فى 16 إبريل، وتشير تقارير إلى أن إسماعيل فهمى، وزير الخارجية، واللواء محمد عبدالغنى الجمسى، وزير الحربية، مرشحان لتولى منصب نائب رئيس الوزراء. وتعلق الوثيقة على توقعات اختيار «سالم» رئيساً للحكومة بالقول: «إنه إذا حدث ذلك فسيفسر المصريون اختيار رجل شرطة محترف لهذا المنصب كإعلان عام بأن المحرضين على العنف سواء من الأجانب أو المصريين سوف يتم التعامل معهم بأقصى درجات الحزم». وتواصل الوثيقة التعقيب بأن أكثر شىء كان مثيراً للفضول فى هذه التغييرات هو التغطية الصحفية المصورة والمكثفة للقاء السادات بقائد القوات الجوية محمد حسنى مبارك وتقول: «على الرغم من أننا لم نسمع تفسيراً ذا قيمة لهذا التركيز الصحفى المفاجئ على مبارك، أو أى إشارة بشأن استبدال فهمى أو الجمسى، إلا أن الأخير مرشح لأن يكون نائباً لرئيس الوزراء». وفى 16 إبريل 1975 أرسلت السفارة إلى الخارجية بواشنطن وعدد من السفارات برقية تحمل الرقم 1975CAIRO03789 تتضمن التشكيل الوزارى الجديد برئاسة ممدوح سالم والذى ضم 31 وزيراً منهم 15 يتقلدون هذا المنصب لأول مرة، إلى جانب 3 نواب لرئيس الوزراء، وهم نائبه للخدمات ووزير التعليم العالى محمد حافظ غانم، نائبه ووزير الخارجية إسماعيل فهمى، ونائبه ووزير الحربية محمد عبدالغنى الجمسى»، واختتمت المراسلة بالقول: «تضمن الإعلان الجمهورى الصادر فى وقت متأخر من مساء 15 إبريل تعيين قائد القوات الجوية محمد حسنى مبارك نائباً للرئيس ليصبح ثانى نائب له»، فى إشارة إلى نائبه آنذاك حسين الشافعى. وفى مراسلة أخرى للسفارة الأمريكية بتاريخ 16 إبريل 1975حملت الرقم 1975CAIRO03836 بعنوان «ملاحظات أولية على الحكومة المصرية الجديدة»، ذكرت السفارة: «فى 12 إبريل أعلن السادات اعتزامه الخروج من الأزمة الاقتصادية وتنفيذ سياسة الباب المفتوح (الانفتاح)، جاعلاً ذلك هو المهمة الرئيسية للحكومة الجديدة، والتى تعانى من نقص واضح فى آليات التنسيق، بما سيجعلها فى مواجهة العديد من المشكلات الاقتصادية التى سبق أن أسقطت حكومة حجازى»، وتستطرد الوثيقة بالتأكيد على ما ذكرته السفارة مسبقًا من أن «تعيين وزير الداخلية رئيساً للوزراء هو بمثابة إعلان بأن النشطاء المناهضين للنظام لن يتم التسامح معهم». وفيما يتعلق بتعيين مبارك، تقول الوثيقة: «إن مرسوم تعيين حسنى مبارك نائباً للرئيس كان مفاجأة غير متوقعة ولايزال يحمل قدراً من الغموض». مشيرة إلى أنه «بغض النظر عن السبب الحقيقى لتعيينه فى هذا المنصب، إلا إنه سيكون بمثابة صفعة للقذافى». وأضافت: فبالنسبة للمصريين، يستحضر اسم مبارك ذكرى الطائرة الليبية المدنية التى أسقطتها إسرائيل فى صحراء سيناء فى فبراير 1973، وهو الحادث الذى طالب القذافى على أثره السادات بفصل مبارك من منصبه بسبب الإهمال، الأمر الذى رفضه السادات آنذاك، ما لاقى قبولاً شعبياً واسعاً لدى المصريين بسبب النبرة المتعالية التى وجه بها القذافى طلبه. وعلى الرغم من غموض أسباب تعيين مبارك الذى عبرت عنه مراسلات الخارجية الأمريكية السابقة، فإن وثائق أخرى بدأت فى الأيام التالية تناقش أسباب هذا التعيين، فتتضمن الوثيقة رقم 1975CAIRO03934 رسالة من السفير الأمريكى المفوض بالقاهرة «هيرمن إليتس» إلى وزارة الخارجية بواشنطن بتاريخ 19 إبريل 1975، تتضمن تعليقات وزير الخارجية «إسماعيل فهمى» على تشكيل الوزارة الجديدة، واختيار مبارك نائباً للرئيس، فتقول الوثيقة: «اعتبر الوزير أن السادات بهذا القرار تخلص من نائبه وزميله السابق فى مجلس قيادة الثورة حسين الشافعى، وهو ما أرجعه (فهمى) لعدة أسباب، أولها: رغبة السادات فى بناء صورة للحكومة الجديدة خالية من أى وجه من الوجوه القديمة من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وثانيها: هو أن الشافعى من وجهة نظر السادات بات يحرض عناصر الناصريين والإخوان المسلمين للتعبير عن تذمرهم من سياسات رئيس الدولة، كما قام بإلقاء خطبة الجمعة بأحد المساجد ودعا فيها إلى العودة إلى تعاليم الدين الإسلامى، ملمحاً إلى رفض السادات تطبيقها، وبالتخلص من الشافعى، من وجهة نظر فهمى، يكون قد تم دحض أى إمكانية لقيادته معارضة ناصرية أو إسلامية ضد السادات». أما بالنسبة لمبارك، فتقول الوثيقة إن اختياره جاء «لدعم الروح الشابة ولترضية القوات المسلحة»، حيث أشار فهمى إلى أن مبارك «يحظى بشعبية داخلها وخارجها، ولكنه، أى نائب الرئيس الجديد، لا يفقه شيئاً فى السياسة»، إلا إن السادات بات يجعله يحضر كل الاجتماعات «لهذا سوف يتعلم مبارك». ويضيف «فهمى» - وفق الوثيقة - أنه «لا توجد مهام محددة تم إسنادها للنائب الجديد، مؤكداً إنه لا ينبغى إساءة فهم اختيار مبارك لهذا المنصب بأنه اختيار السادات لخلفيته المنتظر فهذا غير مقصود». وفى مراسلة أخرى بتاريخ 23 إبريل 1975 من السفارة الأمريكية بالقاهرة إلى وزارة الخارجية بواشنطن وعدد من سفاراتها، بعنوان «الحكومة المصرية الجديدة: التأويلات مازالت مستمرة»، وتحمل الرقم 1975CAIRO04048 تحت تصنيف «يتم تداولها على نطاق رسمى محدود»، يقول السفير الأمريكى المفوض «هيرمن إليتس»: «إن هناك شائعة خبيثة يتم تداولها تقول إن وزارة ممدوح سالم الجديدة هى صنيعة أمريكية، ويبدو أن مصدر هذه الشائعة هم أعضاء من حكومة حجازى السابقة أو قد يكون عبدالعزيز حجازى نفسه»، ويستطرد: «تفسيرات ترقية مبارك نائباً للرئيس تحولت الآن إلى القول بأنه تم تعيينه بإصرار من الجيش المصرى المتذمر»، قائلاً «إن استقالة حسين الشافعى من منصب نائب الرئيس لم يتم الإعلان عنها رسمياً بعد ولكنها باتت فى حكم المؤكدة، والجدير بالتوضيح هنا إن قرار تشكيل حكومة ممدوح سالم وتعيين مبارك لم يتم الإعلان معه عن أى موقف رسمى بشأن ما إذا كان تعيين مبارك يتضمن إقالة الشافعى أم أن السادات بات له أكثر من نائب». ويوضح السفير الأمريكى المفوض حديثه عن حكومة ممدوح سالم بأن «تلك الشائعات هى أمر طبيعى ومتوقع مع أى حكومة لها علاقات وطيدة مع الولاياتالمتحدة، وقد أوضح أن تلك الشائعات يتم التدليل عليها بترقية إسماعيل فهمى من وزير خارجية إلى نائب رئيس وزراء وهو الذى مثل الحكومة المصرية فى (سياسة خطوة بخطوة الأمريكية) رغم الفشل الأخير لجولات كسينجر المكوكية. أما الدليل الثانى فهو ترقية وزير الداخلية ممدوح سالم إلى منصب رئيس الوزراء بسبب تفضيل الأمريكان لرجال الشرطة، خاصة الصارم منهم كممدوح سالم، الذى تحرك ضد المتطرفين والشيوعيين». وبالنسبة لمبارك يقول «هيرمن»: «مازال المراقبون فى مصر يبحثون عن سبب مقنع لترقية مبارك لمنصب نائب الرئيس، وأن التفسير الذى ساقه إسماعيل فهمى - السابق الإشارة إليه - هو واحد ضمن العديد من التفسيرات المطروحة، ومنها القول بأن الجيش قدم للسادات ما يشبه (الإنذار الأخير) بالإصرار على تعيين شخص فى منصب من مناصب صنع القرار لتحقيق التوازن مع تعيين وزير الداخلية رئيساً للوزراء. كما توجد رواية أخرى مشابهة لذلك التفسير تقول إن الجيش غير راض عن سياسات السادات وإنه طلب ترقية مبارك ليجعل أحد رجاله كمراقب فى موقع مقرب من الرئيس. ولكن السفير الأمريكى رجح أن تكون ليبيا هى من يروج لتلك التفسيرات المتعلقة بوجود احتقان بين الجيش والسادات». ويعبر «إليتس» فى مراسلته عن اندهاشه من انتشار التأويل القائل بأن ترقية مبارك ستصاحبها زيادة فى نفوذه وسلطاته، إذ أن منصب النائب بات شرفياً أكثر من كونه ذا صلاحيات، ولكن يبدو أن السادات سيعيد تشكيل صلاحيات هذا المنصب بإدماج مبارك فى صلب العمل الحكومى.