لا يمكن اكتمال فهم عمق التحولات الاستراتيجية فى إدارة بوش الثانية إلا مع تنصيب روبرت جيتس وزيرا للدفاع خلفا لرونالد رامسفيلد، الحليف الكبير لديك تشينى، نائب رئيس الجمهورية اليمينى. قاد كل من كوندوليزا رايس وروبرت جيتس الإدارة لتقترب كثيرا من المواقف الجمهورية التقليدية، وتبتعد رويدا عن المواقف الجمهورية لليمين المحافظ. سبب وساعد على ذلك حصول الديمقراطيين على أغلبية مقاعد مجلسى (الكونجرس)، الشيوخ والنواب، وحكام الولاياتالأمريكية والمجالس المحلية فى الانتخابات النيابية الأمريكية، التى بدأت فى 7/11/2006، حيث حصل الديمقراطيون على 229 مقعدا على الأقل من مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 436 مقعدا، وعلى 51 مقعدا من مقاعد مجلس الشيوخ البالغ عددها 100 مقعد، و28 مقعدا من مقاعد حكام الولاياتالأمريكية البالغ عددها 50 مقعدا، ومعظم مقاعد المجالس المحلية. ويمثل حصول الديمقراطيين على الأغلبية فى مجلس النواب انحسارا لنفوذ وسيطرة الجمهوريين المطلقة على قرارات البيت الأبيض التى بلغت ذروتها منذ عام 2001 حيث كان الجمهوريون يمثلون الأغلبية فى مجلس النواب، بالإضافة إلى تمتعهم بأغلبية مجلس الشيوخ لمدة 12 عاما متتالية منذ عام 1994 ماعدا فترة قصيرة. وبذلك تعود الولاياتالمتحدة إلى عهد الحكومات المنقسمة مجددا، أى أن يحكم البيت الأبيض رئيس من حزب يخالف حزب الأغلبية فى الكونجرس الأمريكى، وهى فترات تتسم بالشد والجذب وتعطل التشريعات، حيث يتصارع الرئيس والمشرعون على صنع السياسات، وفى القلب منها السياسة الخارجية التى صارت المجال الحيوى الرئيسى لتحدى سلطة الرئاسة بعد ورطة العراق. وكان خروج دونالد رامسفيلد من الإدارة الأمريكية بإعلان استقالته بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية الأمريكية نتيجة طبيعية لحالة الاحتجاج السياسى والعسكرى والمدنى على نتائج سياساته الدفاعية خارجيا وآثارها على الشأن الداخلى الأمريكى، ونتيجة قراراته المعاكسة للرأى العام الأمريكى. وقد صدر فى أول تصريح له عقب إعلان استقالته «إنه قرر الاستقالة من منصبه إثر تغير البيئة السياسية عقب فوز الديمقراطيين بانتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى»، وأضاف رامسفيلد فى تصريحه المقتضب بمقر وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» إن الكونجرس سيكون مختلفا، والبيئة أيضا ستكون مختلفة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بعد عامين، وأشار إلى أن هذه الفترة سيكثر فيها التنافس بين الحزبين، مما يعنى أن الاستقالة ستكون الأفضل بالنسبة للجميع. كان رامسفيلد قد جاء إلى الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس جورج بوش الابن كوزير للدفاع، لتطبيق أفكاره لتحرير العسكرية الأمريكية من قيود البيروقراطية العسكرية التى تميزت بها سيناريوهات الحرب الباردة، لتكون العسكرية الأمريكية أكثر رشاقة وسرعة فى الانتشار، ومدعمة بتكنولوجيا متقدمة تناسب حروب القرن ال21. وقد نجح فى تطوير الفكر الاستراتيجى العسكرى الأمريكى ليعمل على مبدأ التنسيق المشترك لإمكانات الأفرع المتعددة للقوات المسلحة، وليس على مبدأ الإمكانات الفردية للأسلحة. كما اهتم بفكرة تكوين المجموعات الصّغيرة من الكوماندوز، التى يمكن أن تستخدم الذّخيرة الذكية الدّقيقة المرسلة من بعد من الطائرات لإيقاع الهزيمة بالخصوم المحتملين. وقد كانت كل من أفغانستان والعراق حقلا للتجارب، ومجالا لتطبيق نظريات رامسفيلد للحرب المستقبلية. وقد كان لأسلوب إدارة رامسفيلد أثره السيئ بسبب تجاهله، بصورة سيّئة، الآراء المعارضة، كما أنه كان متسلّطًا وبذيئًا، كما انه اعتاد على عرض أفكاره بخصوص عمليات الإصلاح الإدارى فى وزارة الدفاع وعمليات إعادة الهيكلة والتنظيم فى صورة منشورات يتم توزيعها من أسفل لتصل الى كبار المساعدين فى البنتاجون، حتى أنه اقترح مؤسسة بديلة للبنتاجون لديها القدرة والسرعة الكافية لشن الحرب العالمية على الإرهاب. كان استمرار وجود رامسفيلد فى الإدارة الأمريكية مع الوضع التحكمى الجديد للديمقراطيين فى مجلسى الشيوخ والنواب يعنى المواجهة العدائية بين الإدارة واللجان التشريعية فى الكونجرس، مثل لجنة خدمات القوات المسلحة، وتعرضه للمساءلة أمام اللجان الفرعية التى ستدقق وتحاسب الإدارة الأمريكية على نتائج سياساتها العسكرية فى العراق. وقد صرح الرئيس جورج بوش فى يوم الأربعاء 8/11/2006، وقبل الحسم النهائى لنتيجة الانتخابات البرلمانية الأمريكية، بأنه فى إطار الاحتياج لخلق منظور جديد لحسم جدلية الحرب العراقية، قرر استبدال دونالد رامسفيلد وزير الدفاع فى الإدارة الأمريكية والمخطط الرئيسى للحرب العراقية، بالدكتور روبرت جيتس، المدير السابق للمخابرات الأمريكية.