هنا كانت تقيم زوجة سفاح الإسكندرية.. مكان تذكرته بعد انقطاع عنه لعمر يزيد على 40 عاماً حيث كنت محرراً فى جريدة «الأخبار» وكلفنى أستاذى جلال الدين الحمامصى «رحمه الله» بالسفر إلى الإسكندرية مع زميلى سامى جوهر «رحمه الله» لتغطية أخبار سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان.. كانت مصر لا حديث لها إلا عن هذا السفاح الذى شغل أجهزة الأمن العام وتشكلت مجموعات أمنية فى محاولة القبض عليه بعد أن أصبح طريداً يقتل عشوائياً كل من يعترض طريقه.. أذكر أن زميلنا سامى جوهر والذى كان أشهر محرر للحوادث فى مصر هو الذى أطلق عليه لقب «سفاح» حيث كانت بقية الصحف تصفه بمجرم الإسكندرية وفجأة تغيرت المسميات عندهم وانقادوا وراء تسمية جوهر له.. حكمدار القاهرة فى ذاك الوقت أعلن أن السفاح هرب من القاهرة وإذا بسيدة فى الدقى تعلن مهاجمة السفاح لها فى بيتها طالبا منها أن تخفيه لأيام مقابل بضعة جنيهات وروى لها أنه قتل عمدة فى قليوب وحصل منه على محفظته ليصرف على علاج عدد من المرضى فى مستشفى قصر العينى رآهم ينامون على الأرض فاهتزت مشاعره وقرر أن يتكفل بعلاجهم.. وبمجرد أن أحس بغدر سيدة الدقى له هرب إلى الإسكندرية. وقصة محمود أمين سليمان أعتقد أنها دخلت موسوعة جينيس على اعتبار أنه أول مجرم ضرب رقماً قياسياً فى تعدد حوادثه على مستوى الجمهورية.. وقد كانت فلسفته أن يأخذ من الغنى ويصرف على الضعيف.. فقد كان يسهر فى فندق هيلتون النيل مع النجوم والكتاب.. فكان صديقاً للشاعر كامل الشناوى.. والفنان عبدالحليم حافظ.. ثم اكتشفوا أمره بعد سطوته على فيلا أمير الشعراء أحمد شوقى.. وظل طريداً يحاول قتل زوجته نوال عبدالرؤوف لمجرد أنها طلبت منه الطلاق بعد أن كان يضربها ويربطها فى السرير بفندق الهيلتون حيث كان يقيم. وأذكر أن وزير الداخلية فى ذاك الوقت كان المرحوم عباس رضوان.. طلب من أجهزة الأمن وضع زوجته تحت الحراسة وعملوا عدة أكمنة حول المنزل لاصطياده ومن هنا بدأت مهمتى الصحفية. زميلى سامى جوهر اتصل فى ذاك الوقت بأستاذنا الأستاذ مصطفى أمين وأبدى رغبته فى نشر مذكرات السفاح وأن الذى سيكتبها محاميه الذى يقيم فى الإسكندرية.. رفض مصطفى أمين هذا الاقتراح وطلب منه أن يكتب المذكرات بعد القبض على السفاح وتكون منه مباشرة لتنال مصداقية عند القارئ. انتهزت هذه الفرصة وعرضت اقتراحاً على الأستاذ مصطفى أمين وهو أن أكتب مذكرات زوجة السفاح من خلال لقاءات معها.. ووافق على هذا الاقتراح فى حالة نجاحى بلقائها حيث تحركاتها تخضع لأجهزة الأمن. وبالتالى نجحت فى الحصول على إذن من وزير الداخلية بمقابلتها وكان يرافقنى فى ذاك الوقت اللواء أحمد عياد مدير المباحث الجنائية بالإسكندرية وأقنعت نوال بنشر مذكراتها.. وحتى أكون صريحاً ابديت رغبتى فى الزواج منها بمجرد القبض على زوجها السفاح.. هى تطلب الطلاق وأنا أتقدم لها بعد العدة.. ولأنها إنسانة بسيطة جداً وعلى طبيعتها رحبت ووجدت فى شخصى الزوج المناسب الذى يعطف على طفليهما. وفى يوم جمعة اتصلت بالأستاذ مصطفى أمين ورويت له جانباً من حكايات نوال وكيف وضعوا الحديد فى أيدى زوجها ليلة زفافهما.. على أن أعود لها صباح السبت وتبدأ فى كتابة المذكرات على أن ننشر صباح الأحد فى «الأخبار» وفى صباح يوم السبت وقبل لقائى مع نوال.. فوجئنا بباعة الصحف فى شوارع الإسكندرية ينادون «اقرأ مذكرات نوال.. مذكرات نوال» ووقفت فى مكانى مذهولاً.. من هى الصحيفة التى سبقتنى فى النشر، أصبت بحالة من الإغماء وإذا بزميلى سامى جوهر يأتى بصحيفة «أخبار اليوم» فهى التى نشرت على صدر صفحاتها الأولى مانشيت.. «مذكرات نوال زوجة سفاح الإسكندرية».. وفى المقدمة نفس الحكاية التى رويتها لأستاذى مصطفى أمين.. ثم إشارة عن نشر المذكرات ابتداء من صباح الأحد فى صحيفة «الأخبار» وكان مطلوباً منى أن أذهب فوراً إليهما.. وإذا بزملائنا فى مكتب الجمهورية يذهبون إلى نوال فى بيتها وعرضوا عليها 500 جنيه مقابل النشر.. فرفضت ثم يرتفع هذا المبلغ 1000 ثم 2000 جنيه ورفضت.. لكن أمها كانت تلومها على رفضها مثل هذا العرض لكن نوال تقول لها: لقد عشت فى الجنة معه وفى النهاية خرجت من هذه الدنيا «زوجة سفاح».. نفسى أحب راجل جدع حتى ولو كان فقيراً.. وكانت تشير إلى شخصى فى حوارها مع أمها. ونجحت فى كتابة إقرار منها بأنها خصصت مذكراتها لصحف ومجلات «أخبار اليوم».. وفوجئت بكاتبنا الكبير الأديب المعروف نجيب محفوظ يقوم بتحويل هذه المذكرات إلى قصة سينمائية وهى «اللص والكلاب».. ويومها عاتبه زميلنا الكاتب الكبير المرحوم وجيه أبوذكرى فى مقال «كيف لا يشير إلى مذكرات نوال التى جاء بها شخصى ونشرت فى الأخبار» ويومها لم أهتم لأن تقدير كاتب كبير مثل الأستاذ مصطفى أمين كان أغلى شىء فى حياتى.. يوم أن عقد اجتماعاً لجميع محررى ومحررات دار «أخبار اليوم» وأعلن لهم أننى عقدت خطوبتى على زوجة سفاح الإسكندرية.. وبالتالى انفردت الأخبار وأخبار اليوم بمذكرات زوجة السفاح.. واعتبر هذا العمل خبطة صحفية سماها خبطة العمر.. منحنى عنها 50 جنيها كأكبر مكافأة صحفية فى ذاك الوقت حيث رحلت نوال عنى ورحلت عنها.. ليبقى اسم مصطفى أمين محفوراً على صدر تلاميذه وأنا أحدهم. هذه الرواية أحكيها ليعرف أولادنا وزملاؤنا الصحفيون الشبان الفرق بين المدارس الصحفية زمان.. والمدارس الصحفية الآن.. للأسف فإن عدداً من هؤلاء الشبان تحولوا إلى حملة المباخر.. يدوسون على أساتذتهم لإرضاء المسؤول على حساب ميثاق الشرف الصحفى.. فيتحول القلم فى أيديهم إلى نفاق مفضوح مقابل أى صفقة إعلانية مشبوهة.. صحيح أن أخلاق الكبار لا تتغير.. لكن الأقزام مهما كتبوا وأصبحت لهم أعمدة سيظلون هم الأقزام. [email protected]