أن يُسلم الرئيسُ السلطةَ بعد انتهاء ولايته، حدثٌ يستحق الاهتمام..وأن يجرى ذلك فى دولة حديثة العهد بالديمقراطية، أمرٌ يدفع إلى الإعجاب.. والحسد! فى جمهورية مالدوفا( أو مالدافيا ) إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، ظهر الرئيس (فلاديمير فورونين) على شاشة التليفزيون قبل أسبوعين ليعلن (بقلب يقطر ألما!) تسليمه مقاليد الحكم إلى ائتلاف حزبى حقق الفوز على الحزب الحاكم فى الانتخابات البرلمانية!.. لم يخف فورونين مشاعره الحزينة فى آخر أيام الرئاسة، بعد ثمانية أعوام ذاق فيها حلاوة السلطة!.. لكن ذلك لم يمنعه من أن يتحول من رئيس إلى زعيم للمعارضة!.. خسر الحزب الشيوعى الذى يتزعمه فورونين الأغلبية البرلمانية، بعد أن تكتلت ضده أحزاب ليبرالية تدعو للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وقَبِلَ الرئيس النتيجة مضطرا! فى هذه الجمهورية التى تعد من أفقر بلدان أوروبا، كاد الصراع بين الحزب الشيوعى الحاكم والأحزاب المناوئة له أن يجرّ البلاد إلى الهاوية!..فى شهر أبريل الماضى اندلعت مواجهات بين أنصار الطرفين، سقط فيها عشرات المصابين واحترق فيها مبنى البرلمان!.. كان الشيوعيون يرفعون شعارات تطالب بحماية استقلال البلاد، بينما كان الليبراليون يهتفون لصالح الانضمام لرومانيا، باعتبار أن مالدوفا ظلت لعقود طويلة جزءا من الدولة الرومانية قبل أن يستحوذ عليها جوزيف ستالين ويلحقها بالاتحاد السوفيتى!.. فى عز الأزمة السياسية سعى الرئيس فلاديمير فورونين إلى الاستقواء بموسكو، غير أن قادة الكرملين تعاملوا مع القضية بحسابات براجماتية، لم يكن عصيا على الرئيس المالدوفى فهمها، فقد استخدم - هو نفسه - لغةََ المصالح فى الحديث مع الغرب وروسيا طوال سنوات حكمه!. كانت ورقة موسكو هى آخر الأوراق للبقاء فى السلطة، لكنه اقتنع بأن ذلك – فى حال حدوثه - قد يدخله التاريخ من باب إشعال حرب أهلية!.. لم يجرؤ على تغيير مواد الدستور التى تسمح للرئيس بفترتين رئاسيتين، مدة الواحدة منهما أربع سنوات لا غير!.. لعله فكر أن عددا من نظرائه فى جمهوريات سوفيتية سابقة يتمسك بالسلطة عن طريق التمديد أو التوريث!.. وربما استدعى من الذاكرة أمثلة على ذلك جرت فى كازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان وبيلاروسيا وتركمانيا وغيرها.. لكن نفسه لم تأمره بسوء تمديد ولايته، ولم تزين له الدفع بنجله (أوليج فورونين) من عالم البيزنس إلى عالم السياسة!.. أيقن الرجل أن مالدوفا رغم فقرها وتردى اقتصادها بلدٌ أوروبى، لا يصلح معه النموذج الشرقى للاحتفاظ بالعرش!.. لعله نظر فى المرآة - قبل خطاب التنحى - وقال لنفسه: للتاريخ حساباته التى ينبغى التعامل معها بدقة! ربما لا يعرف كثيرٌ منّا شيئا عن مالدوفا.. لكن هذا البلد الصغير القابع فى أحد أركان أوروبا، قدم تجربة فى التغيير تستحق الاحترام، حتى لو ولى حكامه الجدد شطرَ الغرب وهتفوا: لبيك أمريكا!.. إنها الديمقراطية التى جعلت فورونين - الرئيس الشيوعى الوحيد فى القارة العجوز - يقبل باستحقاقاتها.. فهل سيعيش جيلنا ليشهد تجربة مماثلة فى بلد عربى.. أى بلد؟! [email protected]