ألقت سياسة إعادة البناء (البروسترويكا) التى أطلقها قبل أكثر من 20 عاما ميخائيل جورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السوفيتى السابق بظلالها على جميع جوانب الحياة فى العهد السوفيتى وما بعده. ففى ظل تلك السياسة التى رافقتها سياسة المكاشفة (جلاسنوست) ظهرت الكتب التى كان مواطنو الاتحاد السوفيتى يقرأونها فى الخفاء على أرفف المكتبات فى طبعات أنيقة بعد أن كان يتم تداولها فى نسخ مكتوبة بورق الكربون. وإذا كان الاتحاد السوفيتى كله قد دفع ثمنا «وجوديا» لأوهام الزعيم الأخير جورباتشوف عندما تصور أنه يستطيع «تفكيك إمبراطورية» لإعادة بنائها، فإن الكثير من الفنون والآداب دفعت ثمنا كبيرا أيضا. ففى مقابل ظهور «الممنوع» اختفى «المسموح» به فى ذلك العصر وهو المدرسة الواقعية الاجتماعية فى الفنون والآداب والتى ميزت الحياة السوفيتية على مدى ما يقرب من سبعة عقود. تقول إليساندرا لوسيا كوريوزى: «لقد حدث ذلك بسرعة، حيث شطب جزء من التاريخ السوفيتى فى أواخر الثمانينيات». وكوريوزى واحدة من القائمين على تنظيم معرض فى برلين بعنوان «خلف الستار الحديدى»، الذى ضم مجموعة من أروع تحف الفنون الواقعية السوفيتية، تعود لمجموعة من مقتنى التحف من ميلان. تقول جايا فيوزيا إحدى هواة جمع المقتنيات الفنية إن هذه اللوحات اختفت بسرعة فى عهد جورباتشوف، وكأنها محاولة للقطيعة مع الماضى. وتضيف فيوزيا «وضعت اللوحات فى المخازن أو الأركان أو حتى رميت وكأن هذا التاريخ لا يعنى شيئا، لكن هذا الفن هو جزء من تاريخ الاتحاد السوفيتى السابق»، وتتابع «لا نستطيع نفيها، لذا قررت مجموعة من مقتنى اللوحات محاولة لإيجاد تلك اللوحات، لأنها كانت محاولة إنقاذ مدرسة الواقعية الاجتماعية». منذ منتصف العشرينيات وحتى الثمانينيات ضمت الدولة الفنانين الرواد إلى الحزب الشيوعى لأسباب دعائية، وذلك لإظهار إنجازات الثورة البلشفية، التى قامت فى 1917، بزعامة فلاديمير لينين، أول قائد للاتحاد السوفيتى. ومن رفض من هؤلاء الفنانين كان مصيره النفى الداخلى، إلى سيبيريا، أو الهجرة خارج البلاد. وطوال 50 عاما علقت لوحات الواقعية الاجتماعية فى الأماكن العامة، لتظهر لينين وبطولة شعوب الاتحاد السوفيتى، والتفاؤل والأمل تحت الحكم الشيوعى. بعض تلك اللوحات ما زال معلقا فى متاحف عدد من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة، لكنها قليلة، مقارنة بالماضى. وفى تكرار غريب للتاريخ، وبمثل ما عادت الفنون التى حظرها الاتحاد السوفيتى، فإن الواقعية الاجتماعية، التى قمعت بسرعة فى أواخر الثمانينيات، ربما تشهد نهضة جديدة فى هذه الأيام، على الأقل هذا هو ما يتمناه مركز قاعات العرض المقام، حيث كان سور برلين من 20 عاما، حيث جمعت لأول مرة 300 لوحة رسمت من منتصف العشرينيات وحتى أوائل الثمانينيات، تحت سقف واحد. طرحت فكرة جمع هذا العدد منذ خمس سنوات، ولم تكن المشكلة جمع تلك اللوحات من دول الاتحاد السوفيتى السابق، لكن المشكلة كانت حقوق الملكية الفكرية وحق العرض، حيث امتلكت الدولة هذه اللوحات. تقول فيوزيا «مررنا بعدة قنوات، لنحصل على اللوحات، كان من السهل عبور الحدود بهذه اللوحات، من روسيا إلى غيرها من جمهوريات الاتحاد السوفيتى، كنا نستطيع شراء اللوحات، فكل أوراقنا كانت قانونية وسليمة، لكن الأمر كان أصعب فى روسيا». كان شراء اللوحات شىء واستعادة رونقها شىء آخر. ويوضح حسن البياتى المنظم الثانى للمعرض، أنه لم يكن يستطيع تصور ما وجده عندما بدأ فى استعادة جمال تلك اللوحات. ويقول البياتى «المشكلة ليست أن اللوحات تحتاج إلى نظافة بل أيضا أن تعرف ما هى المواد التى استخدمت فى الرسم»، حيث شهدت بعض الفترات نقصا فى الخامات الفنية، لذلك عليك أن تكون حذرا. موضوعات اللوحات فى المعرض كانت متسقة مع شهده الاتحاد السوفيتى السابق من تغييرات. ظهر لينين فى العديد منها وهو يقف وسط الفلاحين أو يتحدث للعمال أو يرأس مؤتمر الحزب الشيوعى، بل صورت اللوحات الزعيم السوفيتى فى جميع تحركاته، لكن العديد من اللوحات لم يكن يظهر فيها لينين. ورغم أنه لم تظهر فى هذه اللوحات حالات الشك أو الصراع، فهذا لا يعنى أن الفنانين الذين انضموا إلى الحزب الشيوعى طوروا لأنفسهم أنساقا من الحرية الحقيقية. ففى لوحة «الطلاب» التى رسمها سمينوف فلاديميروفيتش الذى ولد فى روسيا ودرس فى معهد الفنون فى كييف، يظهر كيف طور الفنانون السوفيت قدرا واسعا من الحرية. وتقول فيوزيا «لهذا كان هذا المعرض، فهذه اللوحات أكثر من كونها دعاية حزبية، إنها عن زمن الاتحاد السوفيتى، لهذا عملنا لعرضها على أكبر قدر من الجمهور، فنحن نريد سد ثغرات التاريخ». خدمة نيويورك تايمز الإخبارية