هل لاحظتم التهديد شديد اللهجة الذى أطلقه المهندس طارق كامل لشركات المحمول بسبب عروض خفض الأسعار فى نهار رمضان؟ هل لاحظتم كيف ثار هذا الرجل الهادئ قليل الكلام فخرج عن صمته وتنازل عن هدوئه لأن الأسعار ستنخفض؟ كانت الشركة المصرية للاتصالات «الحكومية» قد تقدمت بشكوى لجهاز تنظيم الاتصالات «الحكومى» ضد شركات المحمول «الخاصة»، لأنها تسابقت فى خفض تعريفة الدقيقة فى نهار رمضان، فوصل بعضها إلى 5 قروش من الدقيقة الثالثة من المكالمة، وبعضها وصل لسعر 15 قرشًا لأى دقيقة.. ورغم أن هذه العروض لا تمثل انخفاضًا حقيقيًا وملموسًا للأسعار، فإن الشركة المصرية للاتصالات اعتبرتها حرقًا للأسعار، وبالتالى سوف تجعل هناك ميزة نسبية للاتصال من المحمول قد يضر فى النهاية بنسب استخدام التليفون الأرضى. وأنا هنا لا أدافع عن شركات المحمول ولا أتعاطف معها.. ولكننى أرى مصلحة مباشرة للمواطن فى انخفاض سعر أى خدمة أو سلعة، ولو بنسبة طفيفة، فى ظل الظروف التى يشعر بها الجميع.. و تكلفة الدقيقة الفعلية لمكالمة المحمول 11 قرشًا ونصف القرش.. وقد رأت شركات المحمول أن الاتصالات على شبكاتها طوال نهار رمضان تنخفض بنسب كبيرة، وحسب قانون العرض والطلب، أرادت هذه الشركات أن تنشط هذه الفترات بهذه العروض التى لا تسرى على الليل ولن تسرى بعد رمضان حينما تعود السوق إلى طبيعتها.. وكنت أتوقع، حسب آليات السوق، أن تتفاعل الشركة المصرية للاتصالات- التى تبيع الدقيقة بثلاثة قروش فقط- مع هذه الآليات، وتقدم عروضًا هى الأخرى، لا أن تقوم بدور قاطع الطريق، وتسعى لمنع شركات المحمول من تقديم عروض أرخص.. والغريب جدًا أن الشركة المصرية للاتصالات تمتلك نسبة 49% من الشركة الثانية للمحمول، أى أنها ستستفيد من هذه العروض أيضًا، ولكنها كانت مرتعشة وخائفة من انخفاض حصيلتها الضخمة من فواتير التليفونات الأرضية إذا انخفض سعر مكالمة المحمول واقترب من سعرها. وقد جاء موقف وزير الاتصالات وجهاز تنظيم الاتصالات والشركة المصرية للاتصالات معبرًا تعبيرًا دقيقًا وأمينًا عن فكر ومنهج تعامل الحكومة مع المواطن.. فالحكومة تتفاعل جدًا مع آليات السوق عند ارتفاع الأسعار، وتتجاهلها إذا انخفضت.. فأى سلعة ترتفع ارتفاعًا بسيطًا عالميًا يقابلها ارتفاع كبير فى الداخل، بينما تظل الأسعار الداخلية ثابتة اذا عادت الأسعار العالمية للانخفاض.. وحاولوا أن تتذكروا معى أى سلعة انخفض سعرها فى مصر خلال السنوات الخمس الماضية بعد انخفاض أسعارها العالمية. والحقيقة أن التنافسية أساس الاقتصاد الحر.. وكل شركة فى السوق تضع سياساتها بشكل يمكنها من الربح والبقاء، فتعدل أسعارها صعودًا وهبوطًا حسب ظروف هذه السوق ومواقف الشركات المتنافسة معها.. والتنافسية مصلحة أكيدة للمواطن.. وقد كنا نطالب بضرورة دخول شركات محمول جديدة للسوق حتى تكون هناك منافسة، بل إن الرئيس مبارك نفسه طالب بذلك منذ سنوات منعًا لاحتكار الخدمة، وتقاعست الحكومة عامين تقريبًا قبل دخول الشركة الثالثة.. فأصبحت هذه الشركات الثلاث تتنافس فيما بينها على جذب شرائح مختلفة من المواطنين، ولها مطلق الحرية فى تحديد أسعارها، وأنا كمواطن أختار الأفضل والأرخص.. وقد كنت أتوقع أن يكون سعر دقيقة المحمول أقل مما هو عليه الآن بكثير لأن لدينا شركات تتنافس، وكان يجب على الحكومة التى صدعتنا سنوات بالحديث عن آليات السوق والتنافسية أن تندمج فى هذا النظام وتتنافس بشركاتها مع الشركات الخاصة التى نشأت.. ولكن تبين أن الحكومة لا تريد أن تتخلى عن دور المحتكر، وأنها هى التى تقف حائلًا أمام خفض الأسعار بزعم أنها تخشى على سوق الاتصالات من حرق الأسعار!! ومقارنة بسيطة بين تصاعد ونمو سعر السهم فى شركات المحمول والشركة المصرية للاتصالات فى البورصة، تؤكد أن شركات المحمول تستخدم المنهج العلمى والنظام المؤسسى فى إداراتها.. ولا يمكن أن تكون شركات بهذا المستوى من الإدارة ساذجة بحيث تتخذ قرارات تجعلها تخسر فى السوق المصرية؟ وما دخل الحكومة إذا حرقت أسعارها أو حتى لو باعت خدماتها مجانًا؟ وما دور جهاز تنظيم الاتصالات بالضبط؟ لقد كنت أظن أنه جهاز لتنظيم سوق الاتصالات بحيث يمنع التنصت على المكالمات مثلًا، ويضبط نمط أداء خدمات الاتصالات، أو يتدخل لصالح المواطن اذا تجاوزت شركة المحمول معه وشكا منها، أو يراقب عمليات بيع الشركات لجهات أجنبية ربما تمثل خطرًا على الأمن القومى لو سيطرت على جزء من الاتصالات المصرية.. وكنت أتوقع أن يبدى جهاز تنظيم الاتصالات اهتمامًا أكبر بفوضى بيع الخطوط لأشخاص دون تدوين بياناتهم بالمخالفة للقانون وما يترتب عليه من مشاكل للمواطنين بشكل يجعل مباحث التليفونات عاجزة عن التحرك فى أى بلاغ يقدم لها.. ولكننى لم أكن أتوقع أبدًا أن يكون دور هذا الجهاز أن يحافظ على الأسعار المرتفعة للاتصالات فى مصر رغم أن عدد مستخدمى التليفون المحمول وصل 53 مليون مشترك. كان مطلوبًا من الحكومة أن تبارك إقدام شركات المحمول على تقديم عروض سعرية منخفضة، وتشجعها أيضًا على خفض الأسعار بعد رمضان، وتمنحها الحرية فى تحديد أسعارها فهى الأعلم بالسوق وبوضعها وموقفها فيها، وهى لن تخسر بكل تأكيد.. وشركات المحمول فى العالم كله تقدم عروضًا مذهلة لدرجة أن بعضها يمنحك الجهاز نفسه مجانًا على الخط الذى تشتريه. سلوك الحكومة فى هذه الأزمة التى مرت دون أن ينتبه إليها كثيرون، كشف أن الحكومة- فعليا- هى السبب المباشر فى ارتفاع الأسعار، وأنها العائق الحقيقى دون انخفاضها.. وطالما بقيت سياساتها لن نشعر يومًا بتحسن فى الأداء الاقتصادى، ولن تكون لدينا آليات سوق ولا تنافسية تصب فى النهاية فى مصلحة المواطن فى صورة خفض فى السعر. [email protected]