وقفت فى حضرة الشيخ عبد الله البلخى باكياً وقلت: يا شيخى أخشى على نفسى مصير شهريار، فقال بهدوء العارفين: يا بنىّ شهريار هارب من ماضيه فممّ أنت هارب؟ قلت: أنا هارب من ماضىّ ومن مستقبلى.. أبحث عن الحق وأخشى أن أجده، فلا طاقة لى بتبعات معرفته، فقال مستعيرا مقولة عبدالله العاقل: «من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد إليه طريقا، ولم يُيئِس أحدا من الوصول إليه، وترك الخلق فى مفاوز التحير يركضون، وفى بحار الظن يغرقون، فمن ظن أنه واصل فاصله، ومن ظن أنه فاصل تاه، فلا وصول، ولا مهرب عنه، ولا بد منه». أنت الآن فى حضرة ليالى ألف ليلة، أجمل وأعذب ما كتبه أبو الكتابة نجيب محفوظ، وكل ما كتبه جميل وعذب، أنت فى حضرة الكنز المحفوظى الذى لم يُكتشف بعد، هنا ستنهل ولن ترتوى من نهر الحكمة المحفوظية العابث وهو يجسد غموض مصير الإنسان الذى تدفعه أخطاء تافهة إلى التغير من أحسن حال إلى شر حال، ليبدو كأنه يؤدى دورا عبثيا لا علاقة له برسمه، هنا سيضعك محفوظ وجها لوجه أمام واقعك الذى لا تبدله آلاف الليالى، حيث الحاكم الذى «يأتى بإرادة لا علاقة لها بإرادة الناس ويرحل بنفس الإرادة، ويبدأ حكمه باعثا على الأمل وينهيه مشيعا باللعنات». فى أبدع لوحات روايته (البكاؤون) يجرد محفوظ شهريار من جبروت الحاكم ليقدمه إنسانا موزعاً بين الخوف والرجاء وهاربا من قصره بعد أن تناسى شعبه آثامه، يرى فى الخلاء صخرة كالقبة يدور حولها رجال يضربونها بقبضاتهم وهم لا يكفون عن البكاء، يقترب الفجر فيتنادون للعودة إلى دار العذاب، يضرب هو بقبضته على الصخرة فينفتح له باب ينبعث منه نور عذب ورائحة زكية مخدرة، يدخل مشفقا من أن يكون طريقه بلا نهاية، لكن المشى العقيم يطيب له، ولما أوشك أن ينسى لمشيه غاية يجد بركة صافية وصوتاً يدعوه: افعل ما بدا لك، يخرج من البركة فى إهاب فتى مليح قوى، فتخبره صبية ملائكية أنه العريس الموعود لملكة عظيمة تضىء مدينة كأنها الفردوس، يتزوج ويمضى أيامه فى حب وتأمل وعبادة وغناء، فى قصر خلاب يحتاج ألف عام لاكتشاف خباياه، لكنه ينشغل عن كل هذا بباب حرمت عليه زوجته فتحه، قائلة: «ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضى تماما»، لكنه يستسلم لنداء خفى ويفتح الباب فيداهمه مارد قبيح يعيده إلى حيث الصحراء والليل والصخرة والرجال والنحيب المتواصل، فيصرخ طالبا الرحمة ويهوى بقبضته على الصخرة هاتفا: «جميع الكائنات تبكى من ألم الفراق». مع نجيب محفوظ ستبكى على حال أمة كالقطيع يتناوب عليها الحكام دون أن يتغير حالها، بينما أهلها لا يملكون سوى مرارة الرثاء «استشهد الشرفاء الأنقياء.. أسفى عليك يا مدينتى التى لا يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يا مولاى لا يبقى فى المزاود إلا شر البقر؟» أو يستجيرون آملين «ماذا يجرى علينا لو تولى أمورنا حاكم عادل؟» أو يندبون حظهم «ويل الناس من حاكم لا حياء له» أو يكتفون بتشخيص الحال دون سعى للثورة عليه «فساد العلماء من الغفلة وفساد الأمراء من الظلمة وفساد الفقراء من النفاق». فى «ليالى ألف ليلة» ستجد نفسك دون شك، ربما وجدتها مع شهريار الذى لم ينسه الترف، إنه «كلما جاء الليل تبين لى أنى رجل فقير»، وربما وجدتها فى نصيحة الشيخ العابد «نحن نكابد أشواقا لا حصر لها لتقودنا فى النهاية إلى الشوق الذى لا شوق بعده فاعشق الله يغنك عن كل شىء»، وربما تمردت عليها مثل نور الدين «إنى مؤمن صادق العبادة ولكننى مازلت عاشقا لمخلوقات الله»، ربما دعاك أحد ذات مرة إلى الشراب فقلت له «رأسى ملىء بالدنان»، وربما هتفت مع قوت القلوب وصوتها يمزق القلوب «من عادة الدهر إدبار وإقبال.. فما يدوم له بين الورى حال»، وربما اجتاحك صوت الشيخ البلخى وهو يهتف بك «طوبى لمن كان همه هما واحدا، ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت أذناه، ومن عرف الله فإنه يزهد فى كل شىء يشغله عنه»، مع كل هذا وبعده ستشفق على الجهلاء الذين رموا نجيب محفوظ بالكفر، لأنك ستجد نفسك وقد وصلت معه فى آن إلى قمة الإيمان وقمة الحيرة، لا تسألنى كيف، ستصل بنفسك، وعندما تظن أنك وصلت وعرفت، سيأتيك صوت شهريار هادراً «الوجود أغمض ما فى الوجود»، ثم إنك صدقنى لو لم تخرج من (ليالى ألف ليلة) سوى بنصيحة صنعان الجمالى لإبراهيم العطار لكفاك: «لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم». (إلى روح صديقى وأستاذى محمود عوض.. اقرأوا له الفاتحة). * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]