نُكتة سمعتها من صديق تقول: إن تلميذاً فى مدرسة أجنبية دولية من تلك التى يدفع الأهل فيها مبالغ كثيرة جداً وغالباً بالدولار، أراد أحد مدرسيه أن يقرّبه من عالم الغلابة ومن أفراد الشعب الذى هو فى النهاية منهم، فطلب منه أن يكتب موضوعاً إنشائياً عن أسرة فقيرة، فكّر التلميذ الذى يعيش منعزلاً فى منتجع بعيد لا يخرج منه إلا إلى المطار ويعود من المطار إليه، فكر وكتب يقول بالإنجليزية بالطبع: أعرف أسرة فقيرة جداً جداً بها الأب فقير والأم فقيرة والطباخ فقير والسفرجى أيضاً والسواق فقير والدادة فقيرة والأسرة عندها كلب، وتوقف التلميذ عن الوصف حيث أدرك أن الكلب لا يكون فقيراً فكّر، ثم كتب: وهذه الأسرة الفقيرة عندها كلب بلدى. لا أعرف لماذا طرأت على بالى تلك النكتة التى تلخّص مقالاً طويلاً عن الأثر الذى تسببه المدارس الأجنبية الدولية فى مصر وشبيهاتها التى لا تُدرّس اللغة العربية على الإطلاق ولا المناهج المصرية من تاريخ وجغرافيا.. وغيره للتلاميذ الذين يلتحقون بها فتكون النتيجة مصرياً لا يعرف المصريين ولا لغتهم ولا تراثهم ولا تاريخهم ولا يفخر غالباً أساساً بالانتماء إليهم، طرأت على ذهنى وأنا أمسك بكتاب جميل للأطفال حصلت عليه من مكتبة الشروق واسمه (كان زمان- مناظر مصرية) تتصدر الكتاب صورة مرسومة للأراجوز يرتدى الطرطور والجلابية المقلمة وتقف إلى جانبه زوجته بمنديل الرأس أبو أوية وتحيط بهما موتيفات مصرية كثيرة كالهلال والأعلام المعلقة والوحدات المثلثة والورود بألوان زاهية جميلة، الكتاب تأليف ورسم الفنان الكبير حلمى التونى الذى صدّره بكلمة يشير فيها إلى أنه كما يدّخر الناس المال لينفعهم فى مستقبلهم تدّخر الشعوب والجماعات مدخرات من نوع آخر غير المال. فهم يدخرون العادات والتقاليد التى يمارسها الجميع ويشترك فيها كل الناس فتجمع بينهم وتجعلهم شعباً أو أمة ويصبح لهذه الأمة ثروة من المعرفة والتجارب نسميها ذاكرة الأمة. ويستطرد: إن الكتاب يحاول رصد وتسجيل بعض هذه العادات والأشياء التى هى جزء من حياتنا اليومية وأفراحنا وسعادتنا وثروة ذكرياتنا التى تشكل ملامح مجتمعنا وملامح هويتنا. يقدم الفنان حلمى التونى هذا الكتاب المصور للأطفال، وبالقطع للأطفال المصريين العاديين وليس الأطفال ذوى اللسان الأجنبى والميول الغربية الذين لم ولن يعرفوا بهجة الأراجوز وعبقرية عربة الفول المدمس وتاريخ العروسة الحلاوة ذات المراوح الثلاث التى تُثبت كالتاج حول رأسها والحصان الحلاوة وفوقه الجندى وعلى رأسه الطربوش، ما أهمية بائع العرقسوس الذى يحمل فى يده صاجات من نحاس وما أهمية دراجة العيد ومرجيحة العيد المزينة بالورود الورقية والتى كانت العيدية هى الطريق إليها، بائع السميط بالسمسم والذى يُغمس فى الدقة وبائع غزل البنات ثم عربة الترمس المزينة بالأعلام وقراطيس الورق والتى تحيط بجوانبها القلل ومع الترمس الحمص والفول المنقوع ونبات الحلبة فى الأوانى الفخارية. يرسم الفنان حلمى التونى ويحكى عن صندوق الدنيا الذى يحمله صاحبه على ظهره ويجلس الأطفال حوله فى الشوارع ينظرون من فتحاته المستديرة المغطاة بالزجاج ويتابعون مناظر مرسومة على شريط داخله، وكان ذلك بالنسبة إليهم سينما أيام زمان، عن عربة البطاطا التى تشويها على الخشب ومراجيح الزقازيق وصينية القلل والأباريق المزينة فى السبوع بالشموع وفى ليالى الصيف بالنعناع والليمون، عن فوانيس رمضان وطبلة المسحراتى وبائع الدندرمة والكلمات المكتوبة على ظهر عربات النقل والكارو والحناطير كى تصرف الأنظار عن العربة وصاحبها حتى لا يصيبهما الحسد، عن القرداتى وأبراج الحمام البيضاء فى الحقول الخضراء وعن مظاهر الحياة المصرية الأصيلة والجميلة والبسيطة يحكى ويرسم ويلون هذا الفنان بحب وعشق واعتزاز وخوف من المجهول على ضياع واندثار هذا الجانب من ذاكرة الأمة. قد لا يكون الكتاب جديداً لكن اكتشاف وجوده هو الجديد، وذاكرة الأمة وتراث الأجيال ومصرية الأشياء والمعانى والمشاعر يشحذ وجودها مثل تلك الأعمال التى قد تبدو بسيطة لكنها تحمى أطفالنا من الغربة والاغتراب وتوثق الصلة بينهم وبين مفردات تراثهم الشعبى وحياتهم الحقيقية. [email protected]