هى أكثر العبارات تكراراً على ألسنة المصريين، يحفظها الكبار والصغار، المثقفون والأميون، الحكام والمحكومون، إنها عبارة «مفيش فايدة». تابع على سبيل المثال أى مناقشة بين أى مجموعة من الأفراد حول إصلاح أى وضع من الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو التعليمية، سوف تجد أن عبارة الختام فيها دائماً هى تلك العبارة التاريخية التى ورثناها كابراً عن كابر!. ويردد البعض أنها قيلت أول ما قيلت على لسان الزعيم سعد زغلول وهو يعالج سكرات الموت. فقد نظر إلى السيدة «صفية زغلول»- أم المصريين! - التى كانت تحاول إنقاذه، وقال لها بصوت يائس: «مفيش فايدة»!. وتشير هذه العبارة- فى المجمل- إلى حالة من حالات اليأس التاريخى من حدوث تغيير، وهى حالة اجتهدت الحكومة فى ترسيخها داخل نفوس الناس منذ سنين طويلة. فبعد وفاة سعد زغلول بسنين قامت الثورة عام 1952، وظن الناس أن فى الأمر «فايدة» بعد أن رفع قادتها شعارات القضاء على الإقطاع والفساد وسيطرة رأس المال على الحكم، وبناء حياة ديمقراطية سليمة، وغير ذلك، لكن الأمر انتهى إلى باشوات من نوع جديد، وفساد أكبر، وسيطرة لرجال الأعمال على الحكم، وديمقراطية «مزيفة». وقد دفع هذا الأمر البعض إلى الحلم بالعودة إلى العصر الذى ردد فيه سعد زغلول عبارة «مفيش فايدة»!، إذ يبدو أن «الفايدة» كل «الفايدة» كانت فيه، مما سمح بقيام ثورة، وطرد الحاكم من البلاد!. وكان حكام الثورة من الذكاء بحيث استوعبوا حقيقة أن العبارة الساحرة لم تتمكن من قلوب المصريين بالدرجة المطلوبة، لذلك حرصوا على وضع خطة منظمة منذ عام 1952 وحتى الآن للقضاء على أى إحساس لدى الناس بإمكانية التغيير!. ولكى نفهم ذلك يمكننا أن نراجع الطريقة التى أدارت بها حكومات الثورة المتعاقبة الانتخابات، وهى طريقة (99.9%). لقد كان بعض السذج من مثقفينا يشككون فى ذكاء الحكام الذين يقدمون على ذلك، ويتساءلون: ما الضير فى أن يعلن الحاكم أن نتيجة استفتاء الشعب عليه، أو انتخابه له، هى الحصول على 70 أو 75% من الأصوات، إنه فى هذه الحالة سيكون فائزاً أيضاً، وسيكسب بالإضافة إلى ذلك نوعاً من التجميل لوجهه الديمقراطى أمام شعبه وأمام العالم. لكن هؤلاء السذج لا يعلمون أن إخراج النتيجة بنسبة (99.9٪) كان مقصوداً، إذ تريد الحكومة من خلاله نقل رسالة معينة إلى الشعب بأنه «مفيش فايدة» . فالانتخابات تزوّر، وتطبخ نتائجها كما تريد السلطة، وإن «اللى عايزاه الحكومة» يحرم على الشعب!. دليل آخر على ذلك يمكن أن نجده حالياً فى برامج «التوك شو»، تلك البرامج التى انتشرت مؤخراً بصورة سرطانية، وسمحت لها لحكومة بهامش معقول من الحرية، وأتاحت لها مساحة- لا بأس بها- لنقد الأوضاع المعيشية والأشخاص المسؤولين عن ترديها، وفضح صور وأشكال الفساد والانحراف التى تنتشر فى العديد من مؤسساتنا. إن مساء المشاهد المصرى أصبح «نكد بزيادة»، وهو يتنقل ما بين «البيت بيتك» إلى «العاشرة مساء» إلى «تسعين دقيقة» إلى «القاهرة اليوم»، ليتعرف على قصص وحكايات الفساد، والأوضاع المتردية التى يعانى منها المصريون فى الصحة والسكن والتعليم وخلافه. الحكومة تسمح بكل هذا ولا تمانع فيه، ولا تجد فيه أى إضرار بأوضاعها أو هزاً لسيطرتها على الأمور، لأن الخطاب الإعلامى لهذه البرامج يكرس لدى الناس عقيدة «مفيش فايدة»، حيث يعتمد على توجيه النقد الحاد إلى هذا المسؤول أو ذاك بسبب فساده أو انحرافه أو تخريبه للمؤسسة التى يجلس فوق كرسى قيادتها، وينتهى الأمر بمجرد أن «يفش الناقد غله» دون أن يشهد الخطأ تصحيحاً، أو يواجه المنحرف بحساب أو عقاب. ومن تابع مؤخراً صرخات شباب الحزب الوطنى فى مواجهة السيد جمال مبارك والقيادات الأخرى للحزب، يمكن أن يستخلص بسهولة حقيقة أن أصحاب الفكر الجديد بالحزب يفهمون نظرية «مفيش فايدة» جيداً، ويحاولون تربية الأجيال الجديدة عليها. لقد صرخ أحد الشباب فى وجه القيادات قائلاً: «إن الحزب الوطنى بقياداته فى جميع المحافظات لا يعطى القدوة فى تداول السلطة، حيث تظل القيادات فى مناصبها لفترات طويلة دون السماح بتجديد الدماء فى شرايين الحزب، وأنا كشاب لا أعرف متى يمكن لى أن أتقلد أى منصب فى الحزب». إن لسان حال هذا الشاب يقول إن ما يعلّمه الحزب للأجيال الجديدة هو درس «مفيش فايدة»، وأن كل ما يقال ويتردد عن التغيير لا يعنى إلا حقيقة واحدة.. هى التوريث. واستقرار مفهوم التغيير فى إطار حقيقة التوريث يعكس نجاح السلطة فى الوصول بالناس إلى رفض فكرة التغيير ذاتها. والتمسك بإعادة إنتاج القديم فى صورة جديدة، مع الاحتفاظ بالأسماء كما هى، فأى جديد هو غير مضمون لأن «مفيش فايدة»، بل إن البعض يرى ضرورة فى التمسك بالأوضاع كما هى عليه، وعدم الاجتهاد فى تغييرها، لأن السلطة الحالية شبعت سرقةً وفساداً وانحرافاً، ولأن أى قيادات جديدة يمكن أن تأتى سوف تبدأ رحلة السرقة والنهب من جديد، لذلك فقد يكون الخير فى الإبقاء على قديمه، أو على الأقل الاحتفاظ بصورة من «قديمه»!. والناس تتصور خطأً أن من سرق وشبع يمكن أن يبدأ فى التفكير فى الشعب لينظر إليه نظرة عطف، ويحاول أن يُصلح أوضاعه، ويداوى أوجاعه، ويجعله يعيش العدل ولو لساعة، ويجتهد فى إشباعه!. ولهؤلاء جميعاً أقول إنكم واهمون.. والأفضل أن تشدوا اللحاف «كويس» فوق رؤوسكم و«تصوّتوا»، لأن «مفيش فايدة»!.