لا أظن أن الحملة على فوز سيد القمنى بجائزة الدولة التقديرية، مبعثها الغيرة على القيم العلمية والفكرية التى تمثلها الجائزة، ولا مبعثها الغيرة على المال العام الذى يمول الجائزة، وقيمته فى حالة القمنى 200 ألف جنيه، بل مبعثها حالة من الترصد لسيد القمنى بسبب حملاته العنيفة على تيار الإسلام السياسى ومن يمثلونه. وينسى كثيرون أن الجائزة لا تصدر بقرار من وزير الثقافة، فلا يملك الوزير أن يمنحها لأحد، أو أن يحجبها عن أحد، ولو كان الأمر بيده لنالها قبل عامين صديقه الصدوق الروائى محمد جلال، حيث كان مرشحاً لها، ولا كانت الجائزة وصلت إلى عدد من خصومه، مثل جمال الغيطانى الذى فاز بها فى ذروة خصومته للوزير. الجائزة تمنح بالتصويت.. أكرر التصويت.. والذين يصوتون هم أعضاء المجلس الأعلى للثقافة، وهم أناس كبار حقاً، ومع ذلك فالتصويت لا يفرز دائماً الأصلح والأحق، وأقول لا يخلو التصويت من عدم دقة فى الاختيار أو على الأقل لا تأتى اختياراتهم على هوانا دائماً، وإلا لما وجدنا أديباً كل إنتاجه مجموعة قصصية يتيمة، ينال بها جائزة التفوق ثم يتقدم بها نفسها إلى التقديرية وأوشك على الفوز العام الماضى، وأعرف أن د.حسن حنفى، فى رأى عدد من أعضاء المجلس الأعلى للثقافة يعد واحداً من «الظلاميين» ومع ذلك نال الجائزة هذا العام. وإذا احتكمنا إلى القيمة العلمية، فقد فاز بالتقديرية فى العلوم الاجتماعية هذا العام سيد القمنى، حيث نال (31) صوتاً، أى فاز بصوت مرجح، فلو نقص صوت واحد لخرج من السباق، وفازت د.نعمات ب(33) صوتاً، بينما لم ينل أى صوت مفكر فى قامة د.إمام عبدالفتاح إمام، وقيمته الفكرية تعلو قيمة القمنى ونعمات فؤاد معاً، يكفيه أنه ترجم لنا الأعمال الكبرى لهيجل وأسس المكتبة الهيجلية فى ثقافتنا، وهو رجل مستنير بامتياز، هو صاحب كتاب «الطاغية» ومجموعة كتب عن الفلاسفة والمرأة، وغيرها كثير، بينما لا نجد للقمنى ونعمات سوى معارك سياسية.. معركة القمنى مع الإسلاميين ومعركة د.نعمات، حول هضبة الهرم، وكان الفضل فيها للزميل الجليل د.وحيد رأفت، أما إنتاجها العلمى فهو جد محدود ولا يتجاوز فى صلبه رسالتها للماجستير والدكتوراه. وإذا رجعت إلى قائمة المرشحين هذا العام، فسوف تجد أن كل مرشح أمامه صفحات من حيثيات الترشيح، أما القمنى فأمامه عدة سطور فقط تقول «أثرى المكتبة العربية بالعديد من البحوث والدراسات المهمة، خاصة فيما يتعلق بمرحلة ما قبل الإسلام متبعاً منهجاً علمياً عقلانياً غير مألوف فى هذا المجال، مما عرضه للكثير من المتاعب والتهديدات لم تزده إلا إصراراً على مواصلة دوره التنويرى المتفرد».. هذه الحيثيات إنشائية ومغلوطة، فالتهديدات لم تزده إصراراً بل تراجع وتقهقر فى سنة 2005، وأعلن اعتذاره وبراءته من أفكاره، استجاب للتهديد والتزم الصمت حوالى عامين، وانصاع تماماً للتهديد، ونعرف أن آخرين تم تهديدهم ومع ذلك لم يعتذروا عن أفكارهم، والنماذج عديدة من المستشار سعيد العشماوى وحتى فرج فودة ونصر أبوزيد ومكرم محمد أحمد وأحمد عبدالمعطى حجازى وقبلهم جميعاً نجيب محفوظ، وعلى هذا فإن ترشيح القمنى قام على كتب تبرأ هو منها! أما القول بأنه استعمل منهجاً علمياً غير مألوف، فهذا كلام مَعيب، فكل كاتب لابد له من منهج، لكننا نعرف أن د.القمنى، دخل إلى مناطق من البحث هو غير مؤهل لها، وهو لم يتجاوز من سبقوه من الباحثين المصريين والعرب، وللتذكير فقط، فقد تحمس جمال الغيطانى، رئيس تحرير أخبار الأدب، «لنشر كتاب القمنى عن نبى الله موسى»، منجماً فى الجريدة، ونشر الفصل الأول، فقام العالم الجليل د.عبدالحليم السيد، الأستاذ بجامعة الإسكندرية، برد علمى موثق، مثبتاً افتقاد القمنى للمبادئ الأولى للبحث، وعجز القمنى عن دحض أقوال د.عبدالحليم، وهناك أكثر من واقعة فى هذا السياق تؤكد الضعف العلمى والمنهجى للقمنى، وبعد ذلك يزعم أن الجائزة هى التى شرفت به! لقد بُحَّ صوتنا سنوياً من فوضى الترشيحات لجوائز الدولة، حتى وجدنا كاتبات وكُتاباً لا تستقيم لبعضهم جملة وبالضغوط والإلحاح فاز بعضهم، بينما لم ترشح السيدة أمينة السعيد، طوال حياتها لجائزة، والناقد الكبير فاروق عبدالقادر، لم يرشحه أحد وأستاذ القانون الجليل د.نور فرحات، تقدم بنفسه للجائزة، جائزة التفوق، ورشحت جامعة عين شمس، د.يونان لبيب رزق، للجائزة ، بعد معركة خاضتها مجلة «المصور» مع الجامعة. وإذا كان ترشيح القمنى والتصويت له خطأ، فإن الخطيئة هى استعمال سلاح التكفير معه، وإذا كنا نُريد لمجتمعنا بحثاً علمياً وفكرياً بحق، فلن يتحقق ذلك بإشهار سيف «التكفير» على رؤوس الجميع، والتحريض على كل من يُفكر، حتى لو أخطأ، فالخطأ حق للباحث وللكاتب، ويعلمنا الإسلام ويعلمنا نبى الإسلام، عليه الصلاة والسلام أن للمجتهد فضلاً ودرجة إذا أخطأ ودرجتين إذا أصاب، ولو أننا أعملنا سلاح التكفير لأطحنا بمعظم إنتاج الحضارة والثقافة الإسلامية التى نباهى بها، سوف نُطيح بابن رشد والرازى، وابن الهيثم، وابن النفيس، والمعرى، والتوحيدى، ومحيى الدين بن عربى والحلاج والسهروردى وعشرات غيرهم، وليتنا نتحلى بالقول المنسوب للإمام مالك: «لو حمل قول على الكفر من مائة وجه وعلى الإيمان من وجه واحد، لأخذنا بوجه الإيمان». غير أن التكفيريين ما عادوا يكتفون بالتكفير، لكنهم تقدموا خطوة أخرى، هى الكارثة الكبرى، وذلك بالدعوة إلى إسقاط الجنسية المصرية عمن يكفرونه، حاولوا ذلك من قبل مع د.نوال السعداوى، ويحاولون ذلك اليوم مع القمنى، وهذا يعنى تآكل مفهوم الوطن والمواطنة، وكأن المواطنة والجنسية تُمنح للمصرى وفق اعتناقه للدين وبحسب اقترابه أو ابتعاده من السلفيين والأصوليين، لقد انتزع بعضنا لنفسه «حق الله» فى تقدير عقائد الناس وما يدور بضمائرهم، وهذا أفرز النفاق الدينى الذى نعيشه، يزداد عدد المنتقبات وتتضاعف نسب الدعارة، ينتشر الدُعاة الجُدد والقدامى، لكن انتشار الفساد أكبر. كفى عبثاً أيها السادة، فالوطنية لا تُسحب لعدم الالتزام الدينى، حتى لو كان الالتزام بالإسلام العظيم، وإذا كان فوز القمنى خطأ تصويت وفوضى ترشيح، فلا يجب أن نتعامل مع الخطأ بالخطيئة، بل بالخطايا.